أنتمي إلى جيل عايش قضية فلسطين، أو كما كان يلقوننا في المدارس، باعتبارها قضية الصراع العربي-الإسرائيلي أو الصهيوني. وأغلب التظاهرات في الزمن الذي عشناه في ظلّ نظام صدّام الدكتاتوري كانت عن فلسطين تضامناً أو تنديداً بحملات القتل والاعتقال التي تحدث في فلسطين.
وحتّى فترة دراستي في جامعة بغداد كان يتم إجبارنا على التدريب العسكري لمدّة ساعتَين تحت عنوان (جيش القدس)، وكانت نتيجة التحشيد والتدريب لهذا الجيش الاستعراض في ساحة الاحتفالات ببغداد، ولم يَعبر حدودَ هذه المنطقة لا لتحرير القدس ولا لغيرها!
أذكر أني فتحتُ عيني على هذه الدنيا والنظام السياسي في العراق يرفع شعار تحرير القدس، ويحشّد للتظاهرات مع كلّ تصادم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبقينا على هذا الحال حتّى سقوط النظام الدكتاتوري الذي كنا نعتبره يتاجر بالقضيّة، وبدلاً من أن يُحرر القدس ذهب لحرب عبثية سمّاها (تحرير الكويت)! هكذا هي الأنظمة الدكتاتورية توهم الشعوبَ بأنّها تقود معركة مصيرية، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، وهذه المرّة معركتنا مع العدوّ الإسرائيلي ونحن نعيد أمجاد التاريخ فيها. وتحت لافتات هذه المعركة أجّلت الأنظمةُ الشمولية كثيراً من الاستحقاقات سواء أكانت ديمقراطية أو تنموية، أو حقوق وحريات سياسية، وتعددية حزبية!
سمعنا مِن الجيل الذي عايش نكبة حزيران 1967 شعارات تصفية الكيان الصهيوني وانهاءه من الوجود واخراجه من أرض فلسطين واستعادة القدس من الاحتلال الإسرائيلي، ويصدحون بشعارات (ما يؤخَذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوة)، ولاءات ثلاث: (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف)، ومفارقات هذا الشعار اِنطلق من الخرطوم عاصمة السودان، التي هي اليوم منخرطة في مشروع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي!
جيل النكبة تربّى على أغنية أمّ كلثوم (أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم) التي كتب كلماتها نزار قبّاني، وأغاني عبد الحليم حافظ (المسيح) و(يا أهلاً بالمعارك)، وأغنية فريد الأطرش (المارد العربي)، وأوبريت الموسيقار محمد عبد الوهاب (صوت الجماهير)، وأغنية فيروز (الغضب الساطع آتٍ). وكان القوميون والماركسيون والإسلاميون يتناحرون على كلّ شيء، لكنّهم توحدوا على تخوين مَن يطالب بالحلول السلميّة، ومَن يطرح فكرة حلّ الدولتين.
أمّا جيلي فقد فتح عينَيه على جلوس الرئيس الراحل ياسر عرفات وقادة حركة فتح مع اسحق رابين وشمعون بيريس على طاولة المفاوضات في أوسلو ومدريد، ولكن مع كلّ التطورات للأحداث يعيد حكّامنا رفع شعار (تحرير فلسطين)، وكانت الحيرة تخيّم على تفكيرنا، كيف نحررها نحن فيما يتفاوض على السَّلام قادة الشَّعب الفلسطيني! حتّى وجدنا الردَّ الشافي في قصيدة نزار قباني (هوامش على دفتر النكسة).
رغم تلقيننا في المدارس بأنَّ قضية فلسطين هي قضية شعب اغتصبَت أراضيه وتعرَّض للقتل والتهجير، إلا أنها لم تترسخ في وعينا كقضية مبدئية في الدفاع عن حقوق الإنسان وعن كرامته ووطنه، أياً كان انتماءه أو دينه أو ومذهبه، وإنّما هي قضية دينية وصراع تاريخي بين اليهود والمسلمين، ومن ثمَّ هي معركة بين خير وشرّ، فإمّا تكون مع جانب الحقّ أو الباطل. وأصبح الموقف الرسمي من قضية فلسطين متماهياً مع مواقف حكّام الأنظمة السياسية وليس مع مبادئ حقوق الشعوب.
لذلك كان حكامنا يدافعون عن حقّ الشَّعب الفلسطيني ويتباكون على الوحشة والاضطهاد التي يتعرّض إليها من قبل قوّات النظام الإسرائيلي، ولكنَّهم في الوقت ذاته، يسحقون بالدبابات مُدنناً بأكملها لأنَّ حركة تمرّد أو معارضة للنظام الحاكم، وهذا ما فعله صدّام حسين مع مدن الجنوب في العراق في 1991، وبشّار الأسد بعد حركة الاحتجاجات في 2011، ويتهم بالخيانة والتآمر كل من خرج إلى الشوارع متظاهراً ويطالب بحقوقه، كما يحدث الآن في الدول التي ترفع أنظمتها شعار تحرير فلسطين.
الحرب هي بداية جديدة، أو قد تحمل رغم مأساتها آفاقاً لنهاية الصراع، إلا حروب منطقة الشَّرق الأوسط فهي حروب عَبثية! إذ تعود مِن حيث بدأت ولا أحدَ يتسأل لماذا حدثت الحرب؟ وما الذي يمنع إعادة حدوثها؟ وبدلاً من ذلك، ننشغل بالتمجيد لانتصاراتنا الموهومة. فالانتصارات حسب مفهوم قادتنا وزعمائنا أن يبقوا هم على سدّة السلطة، حتّى لو تدمّرت مدننا وأصبحت أثراً بعد عين وأطلالاً للحروب، ولعبة الحرب تستهوي مَن هم في السّلطة، لأنَّها الطريقة الوحيدة التي تُديم بقاءَهم فيها وتحوّلهم إلى أبطال قوميين، أمّا الضحايا فهم مجرّد أرقام، وأمّا الدمار فهناك مَن يراهن على الأموال التي تـأتي من الخارج لإعادة إعمار ما هدّمته الحرب، وهي فرصة لزيادة ثروات زعماء الحروب!
وفي العراق، في الوقت الذي تنشغل في خطابات السياسيين بالرسائل التي تؤكّد انتماءها وتماهيها مع محاور صراع النفوذ الإقليمي، ينشغل الكثير من جيل الشباب بشأن سؤال التناقض بالمواقف: فمَن يتعاطَف مَع عمليّات القتل والدَّمار التي تقودها الآلةُ العسكرية الإسرائيلية ضدّ المواطنين الفلسطينيين، لماذا لا يتعاطف مع عمليات القتل والتصفية والمطاردة التي تحدث في أراضينا ضدّ حركة الاحتجاجات والناشطين فيها؟ وتحول الموضوع إلى سجالات تغذّي الانقسام والتطاحن بين العراقيين والطبقة السياسية الحاكمة.
ويبدو أن محنة الأجيال العربيّة لم تتغيَّر، رغم تقادم الزمن وتغير الأحوال، إذ لا زال الحكّام يتغنون بالنَّصر حتّى وإن خلفت حروبهم الآلاف من القتلى والجَرحى والمشرّدين، كما فعل إسماعيل هنية الذي يلوح بشارة النصر من الدوحة بدلاً من غزّة! ولا زالوا يتباكون على ضحايا مجازر الإسرائيليين، ويغض البصر عن ضحايا مواطنيهم الذين لا ذنب لهم سوى المطالبة بحقوقهم كمواطنين وليسوا عبيداً لمن هم في سدّة الحكم! فالقيَم التي تحترم حقوق الإنسان وحفظ كرامته وأمنه يجب أن لا تتجزأ وأن لا تكون عرضة للمتاجرة بالشعارات الايدولوجية التي تشرعن هيمنتها على المجتمعات بشعارات تاريخية ودينية مآلها تدمير الأوطان والإنسان، وهذه هي المحنة الحقيقية في التفكير السائد في عالمنا العربيّ المزريّ، وبدلاً من مناقشتها نختار الهروب نحو سجالات التخوين بين مَن يؤكد على ضرورة تبنّي موقف مبدئي من رفض العنفَ والدمار، وبين مَن يريد أن يعدّها قضية صراع بين الأديان قبل أن تكون سياسية.
أذكر أني فتحتُ عيني على هذه الدنيا والنظام السياسي في العراق يرفع شعار تحرير القدس، ويحشّد للتظاهرات مع كلّ تصادم بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وبقينا على هذا الحال حتّى سقوط النظام الدكتاتوري الذي كنا نعتبره يتاجر بالقضيّة، وبدلاً من أن يُحرر القدس ذهب لحرب عبثية سمّاها (تحرير الكويت)! هكذا هي الأنظمة الدكتاتورية توهم الشعوبَ بأنّها تقود معركة مصيرية، ولا صوت يعلو على صوت المعركة، وهذه المرّة معركتنا مع العدوّ الإسرائيلي ونحن نعيد أمجاد التاريخ فيها. وتحت لافتات هذه المعركة أجّلت الأنظمةُ الشمولية كثيراً من الاستحقاقات سواء أكانت ديمقراطية أو تنموية، أو حقوق وحريات سياسية، وتعددية حزبية!
سمعنا مِن الجيل الذي عايش نكبة حزيران 1967 شعارات تصفية الكيان الصهيوني وانهاءه من الوجود واخراجه من أرض فلسطين واستعادة القدس من الاحتلال الإسرائيلي، ويصدحون بشعارات (ما يؤخَذ بالقوّة لا يُستردّ إلا بالقوة)، ولاءات ثلاث: (لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف)، ومفارقات هذا الشعار اِنطلق من الخرطوم عاصمة السودان، التي هي اليوم منخرطة في مشروع التطبيع مع الكيان الإسرائيلي!
جيل النكبة تربّى على أغنية أمّ كلثوم (أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم) التي كتب كلماتها نزار قبّاني، وأغاني عبد الحليم حافظ (المسيح) و(يا أهلاً بالمعارك)، وأغنية فريد الأطرش (المارد العربي)، وأوبريت الموسيقار محمد عبد الوهاب (صوت الجماهير)، وأغنية فيروز (الغضب الساطع آتٍ). وكان القوميون والماركسيون والإسلاميون يتناحرون على كلّ شيء، لكنّهم توحدوا على تخوين مَن يطالب بالحلول السلميّة، ومَن يطرح فكرة حلّ الدولتين.
أمّا جيلي فقد فتح عينَيه على جلوس الرئيس الراحل ياسر عرفات وقادة حركة فتح مع اسحق رابين وشمعون بيريس على طاولة المفاوضات في أوسلو ومدريد، ولكن مع كلّ التطورات للأحداث يعيد حكّامنا رفع شعار (تحرير فلسطين)، وكانت الحيرة تخيّم على تفكيرنا، كيف نحررها نحن فيما يتفاوض على السَّلام قادة الشَّعب الفلسطيني! حتّى وجدنا الردَّ الشافي في قصيدة نزار قباني (هوامش على دفتر النكسة).
رغم تلقيننا في المدارس بأنَّ قضية فلسطين هي قضية شعب اغتصبَت أراضيه وتعرَّض للقتل والتهجير، إلا أنها لم تترسخ في وعينا كقضية مبدئية في الدفاع عن حقوق الإنسان وعن كرامته ووطنه، أياً كان انتماءه أو دينه أو ومذهبه، وإنّما هي قضية دينية وصراع تاريخي بين اليهود والمسلمين، ومن ثمَّ هي معركة بين خير وشرّ، فإمّا تكون مع جانب الحقّ أو الباطل. وأصبح الموقف الرسمي من قضية فلسطين متماهياً مع مواقف حكّام الأنظمة السياسية وليس مع مبادئ حقوق الشعوب.
لذلك كان حكامنا يدافعون عن حقّ الشَّعب الفلسطيني ويتباكون على الوحشة والاضطهاد التي يتعرّض إليها من قبل قوّات النظام الإسرائيلي، ولكنَّهم في الوقت ذاته، يسحقون بالدبابات مُدنناً بأكملها لأنَّ حركة تمرّد أو معارضة للنظام الحاكم، وهذا ما فعله صدّام حسين مع مدن الجنوب في العراق في 1991، وبشّار الأسد بعد حركة الاحتجاجات في 2011، ويتهم بالخيانة والتآمر كل من خرج إلى الشوارع متظاهراً ويطالب بحقوقه، كما يحدث الآن في الدول التي ترفع أنظمتها شعار تحرير فلسطين.
الحرب هي بداية جديدة، أو قد تحمل رغم مأساتها آفاقاً لنهاية الصراع، إلا حروب منطقة الشَّرق الأوسط فهي حروب عَبثية! إذ تعود مِن حيث بدأت ولا أحدَ يتسأل لماذا حدثت الحرب؟ وما الذي يمنع إعادة حدوثها؟ وبدلاً من ذلك، ننشغل بالتمجيد لانتصاراتنا الموهومة. فالانتصارات حسب مفهوم قادتنا وزعمائنا أن يبقوا هم على سدّة السلطة، حتّى لو تدمّرت مدننا وأصبحت أثراً بعد عين وأطلالاً للحروب، ولعبة الحرب تستهوي مَن هم في السّلطة، لأنَّها الطريقة الوحيدة التي تُديم بقاءَهم فيها وتحوّلهم إلى أبطال قوميين، أمّا الضحايا فهم مجرّد أرقام، وأمّا الدمار فهناك مَن يراهن على الأموال التي تـأتي من الخارج لإعادة إعمار ما هدّمته الحرب، وهي فرصة لزيادة ثروات زعماء الحروب!
وفي العراق، في الوقت الذي تنشغل في خطابات السياسيين بالرسائل التي تؤكّد انتماءها وتماهيها مع محاور صراع النفوذ الإقليمي، ينشغل الكثير من جيل الشباب بشأن سؤال التناقض بالمواقف: فمَن يتعاطَف مَع عمليّات القتل والدَّمار التي تقودها الآلةُ العسكرية الإسرائيلية ضدّ المواطنين الفلسطينيين، لماذا لا يتعاطف مع عمليات القتل والتصفية والمطاردة التي تحدث في أراضينا ضدّ حركة الاحتجاجات والناشطين فيها؟ وتحول الموضوع إلى سجالات تغذّي الانقسام والتطاحن بين العراقيين والطبقة السياسية الحاكمة.
ويبدو أن محنة الأجيال العربيّة لم تتغيَّر، رغم تقادم الزمن وتغير الأحوال، إذ لا زال الحكّام يتغنون بالنَّصر حتّى وإن خلفت حروبهم الآلاف من القتلى والجَرحى والمشرّدين، كما فعل إسماعيل هنية الذي يلوح بشارة النصر من الدوحة بدلاً من غزّة! ولا زالوا يتباكون على ضحايا مجازر الإسرائيليين، ويغض البصر عن ضحايا مواطنيهم الذين لا ذنب لهم سوى المطالبة بحقوقهم كمواطنين وليسوا عبيداً لمن هم في سدّة الحكم! فالقيَم التي تحترم حقوق الإنسان وحفظ كرامته وأمنه يجب أن لا تتجزأ وأن لا تكون عرضة للمتاجرة بالشعارات الايدولوجية التي تشرعن هيمنتها على المجتمعات بشعارات تاريخية ودينية مآلها تدمير الأوطان والإنسان، وهذه هي المحنة الحقيقية في التفكير السائد في عالمنا العربيّ المزريّ، وبدلاً من مناقشتها نختار الهروب نحو سجالات التخوين بين مَن يؤكد على ضرورة تبنّي موقف مبدئي من رفض العنفَ والدمار، وبين مَن يريد أن يعدّها قضية صراع بين الأديان قبل أن تكون سياسية.




0 تعليق على موضوع : قضيّة فلسطين: بين جيلي وجيل النَّكبة
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات