شبكة الدانة نيوز -- المقالات  شبكة الدانة نيوز -- المقالات



random

آخر الأخبار

random

جاري التحميل ...

فعلا.. ما أكبر الفكرة وما أصغر الدولة


(..من شيد المباني وشق الطرق وحرث الأرض وزرعها في إسرائيل غير العرب الباقية في إسرائيل؟

فاالعرب الباقية - صبرا- فيما احتلته دولتنا من أرض، لم يجد أحمد الشقيري متسعا لها في ملفات خطبه الرنانة).


تلح علي هذه الكلمات من رواية إميل حبيبي في خضم أحداث غرب النهر الأخيرة، إلى درجة دفعتني
للتنقيب في رفوف مكتبتي عن رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، فأعيد قراءتها، وإسقاط مشاهدها من زاوية مختلفة، في محاولة لفهم ما يجري في الداخل "الإسرائيلي- العربي" الخفي والغامض.


إميل الذي ولد عربياً فلسطينياً تحت رعاية المندوب السامي البريطاني في حيفا، ربما كان يأمل أن يكون روائياً وأديباً مسرحياً، لكن لم يكن يعلم أنه سيكون إلى جانب ذلك مواطناً إسرائيلياً، ثم سياسياً كعضو في كنيست الدولة التي تصغره سناً.

المتشائل، التي تعتبر من ضمن الأعمال العالمية المائة الأكثر إبداعاً، حصدت أكبر عدد قراءات لدى الجمهور الإسرائيلي بعد ترجمتها إلى العبرية، ربما لاستفاضتها في التعبير عن كل مكنونات التناقضات الممكنة في النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومنها يمكن تفسير التناقض الأغرب في تطورات حياة حبيبي غير المتوقعة، في أن نجوميته الأدبية في الداخل الإسرائيلي، لم تسطع - خارج إطار النخب الثقافية- في سماء الأدب العربي بين الأسماء اللامعة ( ومنهم من هم أقل منه إبداعا) لأنه ببساطة كان إسرائيلياً.

أميل حبيبي، منحته دولة إسرائيل جائزتها للإبداع فكانت صورته وهو يستلمها تحمل ابتسامة غامضة على وجهه، ابتسامة تركت وراءها تفسيرات مختلفة. وحين مات حبيبي عام ١٩٩٦، وتم دفنه في حيفا حسب وصيته، كان مكتوبا على شاهد قبره ولا يزال حسب طلبه وتحت اسمه وبلغته العربية: باق في حيفا.

كان هذا الإعلان على شاهد القبر، تفسير ابتسامته التي حيرت الجميع.

يقول أميل حبيبي أيضا في واحدة من فقراتي المفضلة في "المتشائل" وبسخرية خرافية:

(.. قلت إنك لم تحس بي أبداً ، ذلك أنك بليد الحس يا محترم . فكم من مرة التقيتَ اسمي في أمهات الصحف؟ ألم تقرأ عن المئات الذين حبستهم شرطة حيفا في ساحة الحناطير (باريس حالياً ) يوم انفجار البطيخة ؟ كل عربي ساب في حيفا السفلى على الأثر حبسوه ، من راجل ومن راكب . وذكرت الصحف أسماء الوجهاء الذين حُبسوا سهواً ،.... وآخرين.

...آخرون ؟ - هؤلاء أنا - . الصحف لا تسهو عني . فكيف تزعم أنك لم تسمع بي ؟).

أميل حبيبي، لم يرحل، فأنتجت حالة بقائه في أرضه وحاصل جمع اشتباكاته هو وجيله من مواطنين عرب في دولة إسرائيل، أجيالاً من "الآخرين"، ولدي أصدقاء كثر من هؤلاء "الآخرين" في إسرائيل أعرفهم وأتواصل معهم بود ومحبة وكثير من الفضول عندي لتفسير التباسات الحالة العربية في دولة إسرائيل.

من بينهم الصديقة مرام أبوقاعود، وصديقي أحمد تيم، وكذلك المحامي المناضل من أجل حقوق العدالة في المواطنة أمل عرابي. وأتخيل ما خطر في بال والديه العربيين من إسرائيل بتسميته "أمل". الآخرون..هؤلاء تحديدا هم من كنت أتذكرهم في نص حبيبي الساخر وأنا أراقب أحداث العنف والغضب المتفجر في اللد، وحيفا والحواضر العربية والمختلطة في "دولة إسرائيل".

--

جنوب يافا بقليل، هناك مدينة اسمها بيت دجن، وصار اسمها بعد عام ١٩٤٨ "دجان" بالجيم المصرية، كانت قرية فلسطينية مسيحية بالكامل، وهي اليوم مدينة إسرائيلية "مختلطة" يسكنها أغلبية يهودية وقلة قليلة من العرب.

من بين هؤلاء القلة القليلة، مواطنة إسرائيلية - عربية اسمها مرام أبوقاعود، وهي فنانة موسيقى ومغنية في الطرب الأصيل، درست الموسيقى مؤخرا، وقد درست قبلها بسنوات الصيدلة وتعمل كصيدلانية في المدينة.

السيدة مرام، تملك صوتا جميلا، وأنا أعرفها منذ سنوات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتابعت أعمالها الفنية ومنها ما كان أعمالا فنية لها حصرا، وكنت أعرف دوما إجابتي على تساؤلي: لماذا لا يعرف عن هذه الفنانة أحد في عالمنا العربي؟

الجواب ببساطة: هي من عرب ٤٨. المواطنون العرب في دولة إسرائيل، فلسطينيو الداخل، عرب الخط الأخضر، وكثير من التسميات التي حاولت بيأس تنميط هوية ذلك الفلسطيني الذي لم يغادر أرضه بعد إعلان الدولة في إسرائيل عام ١٩٤٨.

لكن يخطئ من يعتقد أن مأساة سيدة مثل السيدة مرام هي في "حظوظها الفنية " المعلقة على ذمة مواطنة غير مكتملة الأهلية وهوية مشكوك بفلسطينيتها!

السيدة مرام، مثل كثير من الأمهات في غرب النهر وشرقه وشماله وجنوبه والعالم كله في عصر ثورة المعلومات، هي عضو في مجموعات "واتس أب" للأمهات أولياء أمور الأطفال في المدارس، ومرام أبوقاعود الأم، تشارك مجموعة من تلك المجموعات في مدينتها، وكلهن بما فيهن مرام مواطنات إسرائيليات، وكلهن ما عدا مرام، من اليهود.

اشتعلت الأحداث في القدس، ولم يكن مفاجئا الرد المسلح من غزة ضمن روتين الرد والرد المتبادل بين إسرائيل وحماس منذ سنوات.

المفاجئ هذه المرة لإسرائيل نفسها كان انتفاضة مواطني الدولة العرب في المدن المختلطة والحواضر العربية.

كان "العربي المنيح" هذه المرة قد فاض به القهر فانفجر غضبا، ليتحول فورا في أدبيات شريكه في المواطنة الإسرائيلية إلى "عربي ميت" كما تقول لي مرام.

في مجموعة الواتس أب المعنية بالأمهات وشؤون أطفالهن الدراسية، صارت الحوارات عن العرب الذين يجب تذكيرهم بما حدث لأجدادهم من فظائع قبل ٧٣ سنة!! مرام قرأت بالعبرية التي تتقنها تماما مثل العربية ولم تشارك، فالموقف مخيف، وهناك استهداف للعرب المعزولين في تجمعات سكنية.

لكن القهر والغضب انفجر في دولة إسرائيل، والعرب انتفضوا في مظاهرات عنف استهدفت ديمقراطية الدولة نفسها، ليكتشف العالم أن إسرائيل ليست ديمقراطية كما تدعي، وأن المواطنة فيها تخضع لتصنيفات عرقية ودينية ومفروزة على الهوية!

إن ما حدث داخل حدود دولة إسرائيل هو المدهش والمفاجئ والجديد والصادم في كل ما حدث منذ تفجر الموقف في حي الشيخ جراح في مدينة القدس.

--

يلفت انتباهي فيديو لشاب يتحدث بالعبرية، وتمت ترجمة الفيديو إلى العربية، الشاب يخاطب الجمهور الإسرائيلي بانفعال لكن بثبات، وبوعي مدجج بالمعرفة القانونية والسياسية، الشاب محامي إسرائيلي اسمه أمل عرابي.

لم يهدأ فضولي إلا بعد أن تواصلت مع الأستاذ أمل، وكان حوارنا على مدى ساعة ونصف ممتلئا بالدهشة التي غمرتني وأنا أتعلم عن "الآخرين".

يتحدث بعربية طلقة لا سوء فيها وبعامية فلسطينية مكتنزة rبالوعي المعرفي والثقة السياسية.

حدثني عن هويته العربية كإسرائيلي يناضل لأجل تثبيتها، يحتج مثلا على أنه قدم الثانوية العامة الإسرائيلية مثل غيره ليمتحنوه عن تاريخ المحرقة النازية، هو لا ينكرها، لكنه يريد أن يمتحنوه هو والجميع بتاريخهم المحلي أيضا في تلك الجغرافيا التي يعتبرها وطنه، (هذا لا يتعارض مع الدولة وديمقراطيتها) يقول لي!

(..هذا التضييق على الهوية وثقافتها قصر ممارسة المواطن العربي هويته على الرموز) يضيف، ولأول مرة أتعلم اصطلاحا ذكيا موضع التنفيذ مثل "ممارسة الهوية" فشكرا للمحامي الإسرائيلي العربي الشاب.

يقول محتجا في ذات السياق إنه خريج جامعة حيفا، ودرس باللغة العبرية لأنها لغة الدولة، ولا يحتج على ذلك، لكنه يتأسف أن رئيس قسم اللغة العربية في الجامعة بروفسور إسرائيلي غير عربي!

تحدث كثيرا وتواعدنا على حديث أكثر بمحاور عديدة، سأوردها في سياقات جديدة لمقالات قادمة.

باختصار ، كان فهمه لإسرائيل، أكثر عمقا ووعيا من كل أدعياء النضال الفلسطيني الذي تم تعليبه في علبة السلطة في رام الله، هؤلاء "المخاتير" في نص حبيبي، وليس "الآخرون" الذين لم يرحلوا.

--

من ضمن المتابعات التي تصلني من أصدقائي العرب في إسرائيل طوال تلك الفترة، كان فيديو لعضو الكنيست السياسي العربي أحمد الطيبي. المشهد في استوديو محطة إسرائيلية ناطقة بالعبرية، والطاولة مكتظة بالمحاورين، منهم وزراء ونواب في الكنيست، وسياسيين وصحفيين وضابط جيش برتبة كبيرة وأحمد الطيبي.

حين بدأ أحمد الطيبي يتحدث منتقدا الدولة التي يحمل مواطنتها وعضوية برلمانها، ويدافع عن الحق الفلسطيني بتوازن وحسم وحزم، صدرت عن وزيرة إسرائيلية بجواره ضحكة ساخرة، فقطع حديثه وعنفها بكلام قاسي محتجا على ضحكتها ولم يتوقف إلا وقد اعتذرت بشدة ووصفت موقفها بغير اللائق.

أنا بدوري ضحكت، لكن من تداعيات ما بعد المشهد حين تخيلت أكبر مسؤول في معلبات سلطة رام الله إن كان يملك أدنى استطاعة تمكنه من معاتبة "عسكري" إسرائيلي على أي حاجز أمني.

أحمد الطيبي، باق مثل سلفه حبيبي، ومرام كذلك، وأمل وتيم، وغيرهم كثير. وهم من قلب الطاولة في المعادلة كلها، هم المعادلة الجديدة التي ستبدأ برسم نفسها في قادم الأيام في عملية فك لشرق أوسط قديم بكل مفرداته ومعطياته وأولها المصالح النفطية وتحالفاتها، وتركيب شرق المتوسط المختلف نوعيا بكل تحالفاته ومعطياته وأولها غاز المتوسط.

نتنياهو ويمينه المتطرف، لا تنقذه إلا الحروب والدم والنيران، يتغذى المتطرفون أصلا على النار التي تشتعل ويتوهجون هم بتطرفهم، وأنا مع احترامي لكل العاطفة الجياشة التي تعصف بالعالم العربي فلا أتردد أن أقف موقفا مختلفا مثلي مثل غيري ممن آثروا الصمت.

تلك حرب كانت محسوبة، سبقتها وستتبعها انتخابات هي في جوهر الحسابات لدى كل الأطراف.

ما سقط سهواً من الحساب هم "الآخرون"، هؤلاء الذين ذكرتهم الصحيفة كمنسيين في خبر الجريدة عن "الإنفجار"، هؤلاء المتفجرون كحالة وعي ذاتي تأخرت كثيرا منذ عام ١٩٤٨، منذ تأسست إسرائيل التي قدمت أوراق اعتمادها للعالم كدولة ديمقراطية علمانية تحتضن تحت مظلة مواطنتها الجميع بلا استثناء ولا إقصاء (بكل الآخرين فيها كمواطنين على مسطرة القانون والمساواة)، لتنتهي اليوم بيمين يتحكم بمزاج عام إسرائيلي يطالب بيهودية الدولة بل وتوسعتها بالضم والقضم والاستيطان وحلول الترانسفير القسري.

إن الذي أنزل نتنياهو عن الشجرة هم هؤلاء تحديدا، "الآخرون" الذين لم نفهمهم يوما، ولم يفهمهم شركاؤهم في المواطنة وكانوا يخوضون جيلا بعد جيل بالتواتر والتوارث صراعا صامتا هو فعليا صراع الوجود الحقيقي وإثباته بصيغة "باقون في البلاد" في سعي لاستكمال أهلية مواطنتهم. لكن صوتهم ارتفع اليوم، صوت سيرتفع أكثر ويهز المزاج العام المتطرف في إسرائيل أكثر من أي مرة سبقت، ربما- نقول ربما- ليدفن حل الدولتين في فكرة "الدولة".

كاتب الموضوع

شبكة الدانة الاعلامية

0 تعليق على موضوع : فعلا.. ما أكبر الفكرة وما أصغر الدولة

  • اضافة تعليق

  • الأبتساماتأخفاء الأبتسامات

    https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhtNRmjx_UlCfdrZ46drcpO38rFltEv-Cic1BDDlTbrEu_jYvybafnAcAgh_xQvY9eA58T4vZPR2po6XgGqfsGzUP3MaOPekpsryhi2oh78x_lzyqOtZzTifUfUJYgNkUlu1Ku-A4epcUo/s1600/%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2584%25D9%2588%25D8%25BA%25D9%2588+%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AC%25D8%25AF%25D9%258A%25D8%25AF+%25D9%2582%25D8%25B3%25D8%25A7%25D8%25B3+200+%25D9%2581%25D9%258A+250.gif





    إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

    إتصل بنا

    فن تشكيلي

    فن تشكيلي
    لوحة مختارة من جاليري سفن تايمز

    مشاركة مميزة

    تأثير موجة الإرهابيين الأجانب على الأمن القومي المصري

    بقلم : د. إيمان رجب * مع استمرار العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، تتزايد مناقشة مصير الإرهابيين الأجانب الذين سيخرجون ...

    الفلسفة والفلاسفة

    ابحث في الموقع عن المواضيع المنشورة

    جميع الحقوق محفوظة لـ

    شبكة الدانة نيوز -- المقالات

    2017