ميشال عون، رئيس الجمهورية اللبنانية، يريد أن يبدأ التدقيق الجنائي بملف الفساد من مصرف لبنان، ونبيه بري يريده أن يبدأ من وزارة الكهرباء، أما سعد الحريري، رئيس الحكومة المكلف، فله قدم في كلا الموقعين، والأرجح أنه يراهن على أن تطيح رغبتا عون وبري بالتدقيق، والأرجح أيضاً أن تطيحاه.
ميشال عون تم تلزيمه بملف الكهرباء لنحو 15 عاماً، أنفق خلالها من المال العام نحو 40 مليار دولار عبر صهره جبران باسيل، وعلى رغم ذلك يعيش لبنان اليوم بعتمة شبه كاملة. أما نبيه بري فقد نجح في أن يفرض على لبنان معادلة أن وزير المالية يجب أن يكون شيعياً، ومن حصته. وفي زمن تولي المقرب منه علي حسن خليل الوزارة، أقدمت المصارف اللبنانية وبالتواطؤ مع مصرف لبنان ووزارة المالية على السطو على ودائع اللبنانيين! اذاً أيهما يستحق أن يُباشر التدقيق الجنائي معه وفيه؟ أي من الفسادين كان وقعه أشد وطأة على اللبنانيين؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست بديهية، ذاك أننا حيال جبلي فساد هائلين، وخلفهما تتحصن طوائف اللبنانيين، وتتوسطهما خطوط فساد موازية، ويقف خلفهما راع واحد يتطلع لأن يتواصل سجال "من أين يجب أن يبدأ" حتى يطيح بالتدقيق وتنعم الطوائف بقادة منزهين عن المحاسبة. وراعي الفسادين ليس سوى حليف حركة أمل والعونيين، أي حزب الله وسلاحه ومحوره، صاحب الكلمة النهائية بكل شيء في لبنان، وهو أيضاً صاحب اليد الطولى بالفساد اللبناني على رغم ما يلابس سيرته من ترفع عن الفساد.
نعم، الفصام اللبناني هو فصام بين فسادين خلفهما راع واحد. أما الفساد الثالث، وهو الفساد الحريري، فهو متقادم ومتعثر هذه الأيام بفعل إقصاء الحريرية عن مواقع القرار، إلا أنها تواصل اشتغالها في مناطق أقل إغراء لا تكفي لمعالجة الإفلاس الذي يكابده وريثها سعد. وهذه الحقيقة أخلت بتوازن ماكينة الفساد وعززت من فئويته، وهو ما يسعى حزب الله إلى رأبه عبر إصراره على تسمية الحريري رئيساً، فعساه بذلك يعيد للفساد توازنه.
السياسة في لبنان هي أمران لا ثالث لهما. هي سلاح حزب الله والفساد، وهما إذ يشتغلان بموازاة بعضهما بعضاً، يغذي واحدهما الآخر بطاقة اشتغال استثنائية الفعالية. حزب الله يُكافئ المنتصرين لسلاحه بغنائم الفساد، ويعاقب المتذمرين من هذا السلاح بكف يدهم عن هذه الغنائم، ويتولى الآخرون فرض فسادهم على اللبنانيين بمساعدة الحزب. وهكذا نعيش نحن اليوم رقصة فالس بين عون وبري على وقع عزف حسن نصرالله بينهما موسيقى السلاح بصفته الحقيقة الثابتة التي تستحق أن نعيش كارثة الانهيار الكامل في ظلها. فالسلاح حقيقة تتقدم على كل ما عداها، تتقدم على جوع اللبنانيين وعلى صحتهم وعلى مستقبل أولادهم.
وحقيقة أن السياسة هي في لبنان هي ثنائية سلاح حزب الله والفساد تنسحب على كل شيء، ومثلما ثبّت حزب الله حقيقة أن السلاح أهم من لبنان واللبنانيين، فقد ثبّت شركاؤه معادلة أن الفساد هو وظيفة السياسة في ظل السلاح، وأن لا أمل في قيام لبنان من دون اقتصاد الفساد وجغرافيا الفساد وطوائف الفساد.
ومثلما يعتقد الحزب أن سلاحه قدراً دائماً ومتواصلاً ولا نهاية لوظيفته، فإن شركاء الحزب يعتقدون أن لا قيامة أخرى للبنان من دونهم ومن دون فسادهم. وهذان اعتقادان غير واقعيان، ذاك أن لكل ظاهرة نهاية. نهاية السلاح قد تكون حرباً مأساوية وتراجيديا طائفية، بما أن "اليد التي ستمتد إليه ستقطع" بحسب تعبير أمين عام حزب الله حسن نصرالله، ونهاية الفساد قد تكون انهياراً للهيكل طالما أن إمكان الإصلاح مستحيلاً على نحو ما تؤشر الوقائع اللبنانية.
وفي ظل كل هذا، لبنان سائر نحو نهاية غامضة وحتمية، لا قدرة لنا على استشراف شكلها، ذاك أنه لم يسبق لنا أن اختبرنا نهاية بلد حتى نتمكن من التوقع. لكن الأكيد أن لا أفق لوقف الفساد طالما أن السلاح حقيقة ثابتة لن تتغير في المدى المنظور على الأقل. وفي مقابلها لا يملك لبنان قوة البقاء في ظل ما تفرضه من واقع. ميشال عون ونبيه وبري وسعد الحريري حقائق ثابتة في ظل حقيقة أقوى منهم ومنا. إنها حقيقة السلاح، والفساد المسلح... أما سؤال من أين نبدأ التدقيق الجنائي، فهو لا يحضر إلا بصفته طريقاً للإطاحة بالتدقيق.
0 تعليق على موضوع : لبنان.. الفساد المسلح
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات