عند ولوجه مستشفى محمد السادس، في بوسكورة بضاحية الدار البيضاء، وقبل خضوعه لعملية جراحية، حرص الوزير مصطفى الرميد على تحرير استقالته من الحكومة المغربية كوزير مكلف بحقوق الإنسان وبالعلاقات مع البرلمان والمجتمع المدني.
في وقت سابق للاستقالة، شاع خبرٌ بأن الرميد "غاضب" ويقاطع اجتماعات الحكومة والأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، ثم قيل إنه في "عزلة ببيته وحالته النفسية صعبة".
وأرفقت الاستقالة بصورتها الأصلية التي تحمل الترويسة الرسمية لـ"وزارة الرميد" مع توقيعه، وذلك استبعادا لشبهة الأخبار الزائفة على مواقع التواصل الاجتماعي. لكن مقتضيات الدستور المغربي تخول للملك وحده اتخاذ قرار قبول أو رفض استقالة عضو من حكومة جلالته.
سياق متصل
لم تمض ساعات قليلة من نفس اليوم (الجمعة 26 فبراير 2021)، حتى ظهرت استقالة جديدة، هذه المرة صادرة عن إدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية.
أثارت استقالة مصطفى الرميد وإدريس الأزمي بلبلة في الوسط السياسي، وخلفت ردود فعل لدى الرأي العام المغربي، بل اعتبرت زلزالا من شأنه زعزعة أركان حزب العدالة والتنمية، القائد للتحالف الحكومي منذ 2012، إثر اندلاع انتفاضات 20 فبراير 2011 المنبثقة من "ثورات الربيع العربي".
وإذا كان الرميد أرجع داعي استقالته إلى وضعه الصحي، فإن الأزمي شرح مبادرته في حوالي ثلاث صفحات، موضحا أن دافعها هو "المسار الذي عليه الحزب".
أما النشر المتزامن للاستقالتين فذهب بفكر الكثيرين إلى اندراجهما في سياق واحد متصل بوضع حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي، وبتحضيراته للانتخابات المزمع إجراؤها في غضون هذا العام. وقرن بعضهم توقيت الاستقالتين بما عبر عنه الأمين العام السابق، عبد الاله بنكيران في "مؤتمر الربيع العربي"، بأن "الربيع العربي" لم ينته، بل إن مخاطره على النظام ما زالت قائمة وجدية، ما علق عليه البعض بأن بنكيران اعتاد إطلاق مثل هذه الصيحات، وهي تهديدات صادره عنه أكثر مما هي تهديدات قلاقل اجتماعية وانتفاضات واردة. ويضيفون: "لا عجب! ألم يكن حدث "الربيع العربي" فأل خير وبركة على بنكيران وجماعته؟!"، فالإسلاميون هم من جنوا ثمار "الربيع العربي" في المغرب، من دون أي جهد أو تعب، وما فعلوه هو أنهم جلسوا تحت شجرة مثمرة وارفة، ولم يكن لهم حتى فضل هز جذعها أو تحريك أغصانها، كما فعلت مريم بنت عمران في الآية القرآنية لما استجابت للأمر الإلهي: "وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا"، رغم أنها كانت تجلس تحت نخلة يابسة، بل إن رياح الانتفاضات الشعبية هي من هزت جذع الشجرة فتساقطت غلتها على رؤوس إخوة بنكيران مناصب حكومية ومهام كبرى حسنت في رمشة عين أحوالهم المادية. ويستكمل معلق آخر "إن إخوان العدالة والتنمية لم يتلقوا أمرا ربانيا، بقدر "استجابتهم لصوت داخلي مكيافيلي".
بالسرعة نفسها التي تم بها إعلان خبر الاستقالة المزدوجة، تم الإخبار بتراجع صاحبيها عنها، لإيقاف غبار الزوبعة التي أثيرت من خلال التعليقات والتحليلات، وأغلبها قراءات مناوئة. وأيضا لوضع حد للاحتقان الداخلي الذي بات يهدد بانقسام حاد بين قيادة وقواعد الحزب الإسلامي.
ولم يفت تأويل الاستقالة بكونها أتت بعد خبر عزم سعد الدين العثماني على ترؤس وفد حكومي مغربي إلى إسرائيل، خصوصا وأن قواعد الإسلاميين لا زالت مصدومة من قرار التطبيع وتوقيع العثماني، ما غيره، على "اتفاق إبراهيم"، التي بادرت الجهات الرسمية بنفي الموافقة عليها، وأن ما حصل هو فقط استئناف للعلاقات وإعادة فتح مكتب الاتصال الاسرائيلي بالرباط، (فتح سنة 1994 بعد اتفاق أوسلو وأغلق سنة 2000)، وهو ما كذبه ديفيد غوفرين الذي نشر فيديو دعائيا وجهه إلى المغاربة، أصر فيه على صفته سفيرا لإسرائيل وليس رئيس مكتب اتصال، وذكر فيه توقيع المغرب لبنود "اتفاق إبراهيم"، شأنه في ذلك شأن الإمارات والبحرين والسودان.
لا علاقة للتطبيع بالموضوع
سرعان ما صدر تكذيب من حزب العدالة والتنمية يقول إن استقالة الرميد لم تكن بسبب خلافات حزبية جوهرية، بل هي بسبب غضبه من سوء تواصل رئيس الحكومة معه بخصوص عقد دورة استثنائية للبرلمان. أما بشأن الأزمي، فإن الأمانة العامة أعلنت تمسكها به رئيساً للمجلس الوطني وعضواً بأمانته العامة.
والحقيقة، حسب تصريح سعد الدين العثماني في افتتاح أشغال اللجنة الوطنية للحزب (السبت 27 فبراير 2021)، هي أن "ما أشيع من أن استقالة الرميد مرتبطة بقرار زيارة وفد حكومي بقيادة رئيس الحكومة لدولة الاحتلال مجرد كذب وافتراء". (لاحظوا أنه ما يزال يستعمل أمام أعضاء حزبه لفظ: "دولة الاحتلال"). وأن مصطفى الرميد عبر عن انزعاجه مما رآه تهميشا له، و"نحن ننتظر عودته لمهامه النضالية كما عودنا دائماً".
وما أن استفاق مصطفى الرميد من البنج وفتح عينيه، حتى تراجع عن استقالته من حكومة العثماني، و"أذهب الباس رب الناس"، أو كما تقول العامة في المغرب: "مْريضنا ما عَنْدُو باسْ".
في اليوم التالي (الاثنين 1 مارس 2021) عمم الرميد، من سرير مرضه، تدوينة بكون تراجعه عن الاستقالة، لم يحصل كما راج بعد إقناعه من العثماني وقيادة العدالة والتنمية، بل إن الفضل في ذلك يعود "لجلالة الملك حفظه الله"، الذي "أبى ألا أن يتصل مساء يوم تقديم الاستقالة بكلمات أبوية تفوح بالحنان، وعبارات تشجيعية تتقاطر بندى المواساة، فكانت علاجا كافيا، وبلسما شافيا. وقد عبر جلالته عن تمسكه باستمرار وزير دولته في تحمل المسؤولية وأداء الأمانة، فلم يكن أمامي إلا واجب الطاعة وسرعة الاستجابة".
سيناريو انقلابي
رغم تراجع المستقيلَيْن، فإن حجم التعليقات لم يتراجع، هكذا شكك كثيرون في مصداقية ما أقدم عليه الرميد مع الأزمي، بل تم نعت استقالتيهما بـ"المناورة وبالخدعة السياسية، وبالمكر السياسي المفضوح"، و"بلعب الدراري" أي العيال.
واسترجع نشطاء فيسبوك فضيحة عدم استفادة المواطنة "جميلة بشر" من صندوق الضمان الاجتماعي، رغم عملها 18 سنة سكرتيرة بمكتب المحاماة التابع لمصطفى الرميد، وهو ما اكتشفته عائلتها بعد وفاتها سنة 2019، ومشغلها جالس على كرسي وزارة حقوق الإنسان، وقبله وزارة العدل، حينها طالب الرأي العام باستقالته، لكنه لم يفعل.
كما لم تأت الاستقالة بسبب خلاف مع الحكومة التي هو عضو بها، حول "ملفات حقوقية" جرت في عهد توليه وزارة العدل، وبعدها وزارة حقوق الإنسان، حيث استمرت انتهاكات حقوق الإنسان مسجلة انتكاسات وتراجعات كبرى تذكر بعودة "سنوات الرصاص"، من اعتقالات بسبب الرأي، وسجن وتعذيب وتشهير استهدف مواطنين وصحفيين ومدافعين عن حقوق الإنسان. كان الأمر يستحق من الرميد الاستقالة احتجاجا، لكنه لم يفعل. وعكس ذلك، تقمص الرميد دور "محامي الشيطان" لتبييض وجه الحكومة والدولة.
وجاء التطبيع مع إسرائيل، وكان مناسبة سانحة للاستقالة. هو من كان يحب الظهور في التجمعات المؤيدة لتحرير فلسطين، وحول عنقه كوفية فلسطينية، لكنه ابتلع لسانه وصمت.
الأمر ذاته فيما يخص الوزير السابق، إدريس الأزمي، الرجل الثاني في حزب العدالة والتنمية، فقد قام بتكييف قرار استقالته على خلفية ما وصفه بـ"انحراف الحزب عن مبادئه التي نشأ عليها".
عرف إدريس الأزمي، بدفاعه المستميت عن الريع والاستفادة من تعدد الامتيازات، فهو نائب بمجلس النواب وعمدة لمدينة فاس العريقة. في أكتوبر الماضي، خلف تدخله بإحدى اللجان النيابية موجة عارمة من الاستياء والغضب، وأصبح موضوع سخرية فاشتهر باسم "المستر بيليكي"، وهي لفظة غريبة تعني المجانية، وباسم "الديبْخشي" وحار المفسرون في شرح هذه اللفظة. لفظان كررهما الأزمي مرات مدافعا عن تقاعد البرلمانيين وامتيازاتهم.
ويتردد أن رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، هو من صنع نجم الأزمي، بعد أن كان مغمورا قبل 2011. وفي آخر مؤتمر للعدالة والتنمية، أيد الأزمي إعادة انتخاب بنكيران والتمديد له في ولاية ثالثة، لذلك لا يستبعد مراقبون أن الأزمي يؤدي هنا دور "كومبارس" في سيناريو انقلابي يتزعمه بنكيران، المتطلع لتصدر المشهد من جديد بعد أن ذهب إلى التقاعد براتب سمين (9 آلاف دولار شهريا) مع امتيازات أخرى.
السقوط من مبنى شاهق
يذهب الكثيرون إلى أن الاستقالتيْن تدخلان في نطاق التمهيد للانتخابات التي على الأبواب. فحكومة العثماني لم يتبق لها إلا بضعة أشهر لإتمام ولايتها الحالية، والخروج بالاستقالات يمثل الورقة الأخيرة في يد الحزب الإسلامي لإسقاط مشاريع القوانين الانتخابية، التي ستضع حدا لهيمنة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المقبلة، حسبما يتردد في أوساط سياسية.
كما يتخوف الإسلاميون من تصويت عقابي ضدهم بعد أن استهلكت شعاراتهم لجذب الناخبين، إذ اتضح أن الإسلاميين لم يكونوا أوفياء لوعودهم في محاربة الفساد والظلم والاستبداد، بل إنهم ليسوا أنقياء طهرانيين مؤمنين كما قدموا أنفسهم، بل إنهم مدوا أياديهم لاستغلال المال العام، وانتشرت فضائحهم الجنسية، وتعرت كفاءتهم المنعدمة. وأن كلمة "لا" ليست من قاموس لغتهم أمام ما يسمى بحكومة "الظل".
يرد العثماني على الاتهامات بالقول: "نحن لا نفكر في الانتخابات المقبلة، لكننا سنستعد لها". وفي بث فيسبوكي، خاطب شبيبة حزبه بجهة فاس– مكناس: "هناك أطراف هاجسها خطر الولاية الثالثة لحزب العدالة والتنمية"، متهما جهات غير معرفة باستهداف حزبه من خلال حملات تبخيس وتشويه وإساءة.
والواضح أن الانتخابات المنتظرة هي ما يؤرق اليوم قادة العدالة والتنمية، فهم يدركون جيدا أن المخزن ضاق ذرعا بهم، وأن الملك رفض التجديد لبنكيران بعد تصدر حزبهم انتخابات 2016، ولم ينفع تنطع بنكيران وصموده لأشهر، إذ انتهى بعدها إلى تسليم القيادة في الحكومة والحزب لسعد الدين العثماني. وأن مآل الاشتراكيين، من سبقوهم في قيادة الحكومة، بانتظارهم. بالديمقراطية من دون "الخروج عن منهجيتها"، و"القصر" كما هو معلوم، يرفض أن ينافسه أي حزب أو ينازعه في شرعيته.
لكن ما العمل؟ والحنين لا يفارق بنكيران، الذي أصبح يقدم نفسه كرقم لا يمكن تجاوزه، بارك التطبيع وتدخل لحل نزاعات حزبية داخلية، واعتقد أنه مرجع ومؤسسة لذاتها، يمكن له فرض حساباته على الدولة. وبعد تراجع الرميد والأزمي، خرج بنكيران ليأخذ بزمام الأمر، فهدد بالاستقالة من قيادة العدالة والتنمية إذا ما صادق نواب حزبه على مشروع تقنين استعمالات القنب الهندي، لكن رجع الصدى لهذا التهديد كان هو كلمات الأزمي في ختام نص استقالته المرفوضة: "هل مازلنا نحن هم نحن فعلا؟".
إحدى ناشطات الحركة النسائية غردت ساخرة من بنكيران: "لعله استهلك جرعة زائدة من القنب الهندي فزاد تأثيرها من أوهامه وغربته عن الواقع".
أما يساري من "حركة 20 فبراير" (رفض تسميته)، فقال: "إن تهديد بنكيران، يشبه استغاثة ساقط من مبنى شاهق، خصوصا أن منظمة الصحة العالمية تصنف حالات السقوط في الرتبة الثانية لأهمّ أسباب الوفيات الناجمة عن الإصابات غير المتعمّدة".
هي نهاية غير متعمدة لحزب خرج من رحم السلطة وتغوَّل. تأكيد إضافي أن "إسلاميي القصر" لم يعودوا هم أنفسهم...!
ويتناهى صوت من خلف الكواليس: اللعبة انتهت. Game Over
=========================
عبد الرحيم التوراني
كاتب وإعلامي، من مواليد مدينة الدار البيضاء في المغرب. هو مؤسس ورئيس تحرير مجلة "السؤال" السياسية والفكرية، ونشر كتاباته ومقالاته بالعديد من الصحف والمجلات والمواقع الرقمية المغربية والعربية والأجنبية. وحاصل على الجائزة الوطنية الكبرى للصحافة المغربية، وعضو ملتقى الذاكرة والتاريخ (جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء) والمركز المغاربي للدراسات والأبحاث.
من كتبه: "قبر المهدي بن بركة"، "صديقي زفزاف: الغيلم والطاووس"، "طريق العميان" و"نزوات غويا". وترجمت بعض قصصه إلى اللغات الفرنسية والإسبانية والفارسية.
عبد الرحيم التوراني
كاتب وإعلامي، من مواليد مدينة الدار البيضاء في المغرب. هو مؤسس ورئيس تحرير مجلة "السؤال" السياسية والفكرية، ونشر كتاباته ومقالاته بالعديد من الصحف والمجلات والمواقع الرقمية المغربية والعربية والأجنبية. وحاصل على الجائزة الوطنية الكبرى للصحافة المغربية، وعضو ملتقى الذاكرة والتاريخ (جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء) والمركز المغاربي للدراسات والأبحاث.
من كتبه: "قبر المهدي بن بركة"، "صديقي زفزاف: الغيلم والطاووس"، "طريق العميان" و"نزوات غويا". وترجمت بعض قصصه إلى اللغات الفرنسية والإسبانية والفارسية.
0 تعليق على موضوع : القنّب الهنْدي يُدوِّخ "إسلاميِّي القصْر" في المغرب!
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات