ومعلوم أن التنافس أو التنازع او التصارع بينهما، على المكانة والموارد والسلطة، طوال 15 عاما، استنزف معظم طاقة الفلسطينيين، بدل صرفها في مواجهة الاحتلال، فضلا عن أنه أشاع الإحباط في الشارع الفلسطيني، وعزز الفجوة بين الفلسطينيين وكياناتهم السياسية، كما انه أضعف من قدرتهم على مواجهة التحديات والسياسات الإسرائيلية والأمريكية.
بيد أن حديث النيات أو التوافقات السياسية في بيانات شيء، والواقع شيء آخر، فإذا صرفنا النظر عن أن أكثر من عشرة تجارب متشابهة جرى فيها توافقات مكتوبة، في بنود مفصلة (في مكة وصنعاء والدوحة وغزة والقاهرة) فإن توافقات إسطنبول تحيط بها شبهة اللحاق بسابقاتها، لأسباب متعددة، أهمها:
أولا: أن فترة الستة أشهر طويلة، وهي أتت متأخرة جدا، إذ في غضونها قد تحدث تحولات داخلية (فلسطينية) أو خارجية (الانتخابات الأمريكية ـ مسارات التطبيع ـ الأوضاع في الإقليم) قد تطيح بتلك التوافقات، أو قد تدفع أيَّا من الطرفين للتنصل منها.
ثانيا: مع أهمية إجراء الانتخابات التشريعية، إلا أن عدم تحديد موعد لإجراء الانتخابات الرئاسية وتاليا انتخابات المجلس الوطني (في سياق إعادة بناء منظمة التحرير)، قد يجعل من انتخابات المجلس التشريعي لزوم ما لا يلزم، إذ يمكن للرئيس لأي سبب أن يحل المجلس التشريعي، أو يجمد عمله، لأي سبب كان، وهو حصل سابقا، كما أن العزوف عن إجراء انتخابات للمجلس الوطني، وإبقاء منظمة التحرير على ماهي عليه سيفاقم من المشكلة، وسيبقينا في المربع الراهن، أي مربع الأزمة الوطنية الفلسطينية.
ثالثا: لابد أن تقترن الدعوة لإجراء انتخابات مع فسح المجال من قبل سلطتي فتح وحماس لحراكات شعبية في الضفة وغزة، تسمح للمجتمع المدني الفلسطيني التعبير عن ذاته، في إبداء رأيه، وفي تشكيل قوائم للانتخابات، لأنه من دون ذلك، فإن الانتخابات ستتمخض عن نوع من الشراكة بين الفصيلين الكبيرين/السلطتين، مع الأخذ بالاعتبار أفول فصائل اليسار الفلسطيني، وتراجع مكانتها، وأيضا انحسار مكانة الفصائل الأخرى، التي تعمل في هوامش التصارع بين فتح وحماس، بالاعتماد على نظام الكوتا.
رابعا: تبعا لكل ما تقدم يفترض ملاحظة مسألتين: الأولى، أن الحسم نحو تنظيم الانتخابات إن لم يقترن بإعادة بناء البيت الفلسطيني، أي إعادة بناء منظمة التحرير على أسس وطنية ومؤسسية وتمثيلية وديمقراطية وانتخابية، وفك الارتباط بينها وبين السلطة، فإن الأزمة الوطنية الفلسطينية ستبقى على حالها. والثانية، أن إجراء الانتخابات، بكل مراحلها، ربما لا يغير من وضع الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد إسرائيل، في ظروفه الراهنة، وفي المعطيات العربية والدولية السائدة، لكنه خطوة ضرورية لتقليل الخسائر، وتفويت ما أمكن من المخاطر التي يتعرض لها شعب فلسطين وقضيته وحركته الوطنية، وهي خطوة ضرورية للتلاقي مع أي تطورات إيجابية عربية ودولية قد تحصل لاحقا.
أما على المستوى الراهن، فليس لدى الفلسطينيين سوى خيارين، أولهما، استمرار الوضع السائد، مع مجرد سلطة محدودة تتعايش مع إسرائيل، وتشتغل على أساس التنسيق الأمني والتبعية الاقتصادية والمصالح السياسية معها. وثانيهما، الانقلاب على واقعهم الراهن وتحرير الكيان الفلسطيني من اتفاقات أو قيود أوسلو، بعد ان نقضتها إسرائيل أساسا، واعتباره مجرد كيان تابع للمنظمة، وتتحدد مهمته في إدارة أحوال الفلسطينيين في الداخل، لكن على أساس تنمية المؤسسات والموارد الذاتية في سياق التصارع المدروس، وليس التعايش، مع الاحتلال، وفقا للطرق والوسائل المناسبة والمجدية.
واضح أن الخيار الأول سيؤدي إلى تآكل الكيانات السياسية الفلسطينية، وأفولها، بعد أن انتهى دورها، وبعد أن تخلت هي عن معنى وجودها، كما سيؤدي ذلك الى انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، في حين أن المشروع الثاني ربما يكون بمثابة الجسر اللازم لحمل حالة وطنية فلسطينية جديدة، تبشّر بها الأجيال الجديدة من الشباب الفلسطينيين في الداخل والخارج، التي تتطلع إلى العيش في عالم أكثر حرية وعدالة وكرامة، مع أشكال وتصورات جديدة في النضال والتعبير.
وبالتأكيد فإن وجهة النظر هذه تنطلق من فرضية مفادها استحالة، أو أقله عدم جدوى، تصوّر عمل فلسطيني فوق العادة، أو أزيد من قدرة الفلسطينيين، التي هي محدودة أصلا، في ظل هذه المعطيات الدولية والإقليمية غير المواتية، لاسيما في ظروف انفجار المشرق العربي، وتصدع مجتمعاته، لاسيما في العراق وسوريا.
ثمة مشكلة لا بد من لفت الانتباه إليها هنا، ومفادها أن الفلسطينيين مازالوا متمترسين عند قواعد ورؤى صراعية قديمة لم تثبت نجاعتها، رغم مرور أكثر من نصف قرن من الكفاح الفلسطيني، مع كل ما فيه من بطولات وتضحيات ومعاناة. والمسألة الأساسية هنا، والتي يمكن أن تشكل تحديا لإسرائيل، كفكرة، وكظاهرة مجتمعية، وكحالة قوة، إنما تكمن في التحول من الصراع ضدها على جزء من الأرض، الذي اختزل بأرض الضفة، وإلى انسحاب هنا أو هناك، الى الصراع على مئة بالمئة من الحقوق، ما يعني بداهة ضمن ذلك الصراع على مئة بالمئة من الأرض، طالما أنها ترفض قيام دولة فلسطينية مستقلة. والمغزى أن الصراع على الحقوق الفردية والجمعية، السياسية والوطنية، هو الذي يضع إسرائيل أمام التحدي، إزاء ذاتها، وإزاء العالم، بمواجهتها على طبيعتها كدولة احتلالية واستيطانية وعنصرية ودينية، أي باللغة التي يفهمها العالم، وهي لغة أقل كلفة، وتسمح للفلسطينيين بتنمية أحوالهم، وبناء مجتمعهم، فوق أرضهم.
إذاً، الانتخابات مدخل ضروري، لا بد منه، لكن الانتخابات وحدها لن تحل شيئًا من دون اقترانها بكل ما تحدثنا عنه.
0 تعليق على موضوع : الانتخابات ضرورية لكنها وحدها لا تكفي // ماجد كيالي
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات