وضع دبلوماسية الأوبئة ضمن الأطر الرئيسية في العلاقات الدولية يضفي طابعا جديدا على التوجهات المقبلة بالنسبة إلى شكل النظام الدولي.
الاثنين 2020/04/13
قيادة جديدة للسياسة الخارجية
هناك أنواع كثيرة من الدبلوماسية تستخدمها الدول لتحقيق أهدافها وتطوير علاقاتها، تشمل الرياضة والثقافة والاقتصاد والأمن وما إلى ذلك من مسميات وعناوين مختلفة، وكل دولة تختار الوسيلة المناسبة لها التي تخرج عن الإطار التقليدي، ثم تتحول إلى قاعدة تتناقلها الدول، مثل الدبلوماسية الشعبية والحافلات والجنائز والتنس والأفلام.. ناهيك عن البينغ بونغ والباندا والأحفاد. ومع كورونا ذاع صيت دبلوماسية الصحة أو الأوبئة.
ارتبط اسم الصين والولايات المتحدة بالأنواع الجذابة التي تأتي في مراحل فارقة، ففي كل مرة يُطلقُ توصيف جديد أو يحظى بانتشار واسع، تكون غالبا بكين وواشنطن طرفين رئيسيين فيه، بما يعبّر عن منحى محوري في العلاقات بينهما.
مع تنامي الأزمة التي خلّفها كوفيد- 19، يتوقع كثيرون أن يمثّل هذا المرض فرصة لإعادة النظر في الصراع المحتدم بين البلدين، وينهي أو يعمّق حالة متأزمة في بعض القضايا ذات الاهتمام المشترك، ويوقف أو يضاعف زحف سيناريوهات غامضة تنعكس آثارها على العالم.
أذابت دبلوماسية “البينغ بونغ” الجليد بينهما عندما كانت العلاقات مقطوعة ومصحوبة بحظر اقتصادي على بكين، بعد وصول فريق كرة الطاولة (البينغ بونغ) الأميركي عام 1971 للمشاركة في الدورة 31 لبطولة العالم في هذه اللعبة بمدينة ناغويا اليابانية، وصافح أحد أفراد الفريق الصيني لاعبا أميركيا، ثم تسلم الفريق الأميركي دعوة لزيارة الصين ليكون أول وفد رسمي من الولايات المتحدة يضع أقدامه في بكين منذ أكثر من عشرين عاما.
وقتها قال الرئيس الصيني الراحل، شو أن لاي، لأعضاء الفريق الأميركي “أنتم تفتحون اليوم بابا جديدا للعلاقات بين شعبي الدولتين”، وأعلن الرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيسكون تخفيف الحظر على الصين، وانتشر وصف دبلوماسية “البينغ بونغ” على يد هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق، وثعلبها الشهير.
عندما قام ريتشارد نيكسون بزيارة بكين في العام التالي لهذا الموقف لتأكيد كسر الجليد، حرصت زوجته (بات نيكسون) على زيارة حديقة الحيوانات في بكين، وأبدت إعجابها بحيوان الباندا، بما جعل الرئيس شو أن لاي، يقدم لها زوجا من الباندا (لينغ لينغ وشينغ شينغ) كهدية من الشعب الصيني إلى نظيره الأميركي، وعند هبوط طائرة الرئيس نيكسون في واشنطن كان نحو ثمانية آلاف مواطن بانتظار زوج الباندا، وتم وضعهما في حديقة الحيوانات بواشنطن.
وظفت الصين الباندا، الحيوان المحبب لها، في تدعيم العلاقات مع دول عدة، وفتحت آفاقا واسعة بهذا النوع من الطرق الناعمة التي تخلب القلوب، وذاع صيت دبلوماسية الهدايا بألوانها وأشكالها المتعددة بعيدا عن بكين.
تطور الحال حتى وصلنا إلى دبلوماسية الأحفاد، وهو مسمى بدأ تداوله بقوة منذ ثلاثة أعوام وله علاقة بالصين والولايات المتحدة أيضا، ويمكن أن يلقى زخما مع زيادة التلاحم الإنساني بين الشعوب، والاستمتاع بأجواء الأسرة التي أفضى إليها العزل بسبب انتشار كورونا.
حظيت أرابيلا كوشنير، حفيدة الرئيس دونالد ترمب، باهتمام بالغ من الصينيين، عقب قيام والدتها إيفانكا ببث مشاهد على مواقع التواصل الاجتماعي للطفلة وهي تغني باللغة الصينية “أغنية الياسمين” المحببة للرئيس الصيني شي جين بينغ، وزوجته، على مأدبة عشاء أقامها ترامب على شرفهما خلال زيارتهما للولايات المتحدة.
تحمل الدبلوماسية أسماء جذابة، تعبّر عن فحوى ومضامين سياسية معيّنة، يرمي أصحابها إلى إضفاء مكوّنات إنسانية غالبا عليها، فهذه المهمة تقوم على التفاعل بين البشر والتركيز على القوالب الوجدانية كمدخل للتأثير في عقل صنّاع القرار، وتستخدم أنماطا عدة لتصل إلى أغراضها السياسية، وهي تتسلح بأبعاد مؤثرة لتجفيف منابع الألم وتحيي الأمل بين الدول.
متوقّع أن تحظى دبلوماسية الصحة بمزيد من الانتشار الفترة المقبلة، لأنها تجمع كل القيم النبيلة التي عرفها البشر، بخلاف الأشكال الأخرى التي تركز على جانب واحد محوري يدغدغ المشاعر من زاوية محددة، منه يمكن الانطلاق إلى مستويات أعلى تصبّ في المربع الإنساني وما يتفرع عنه من تعاون يأخذ مناحي عميقة في صميم التفاعلات بين الدول.
لا يرتبط اختراع دبلوماسية الصحة بفايروس كورونا أو يقتصر على دولة بعينها، ربما تكون الصين استخدمته ضمن أدوات أخرى، غير أن حضوره على المسرح العالمي قديم، ويعود إلى العقدين الماضيين عندما تزايدت الأمراض والأوبئة.
وانتعشت تجارة الأدوية العابرة للحدود، واضطرت جهات عدة إلى اللجوء إليها لإجراء اختبارات سريرية، وتقديم مساعدات تخفف من وطأة الأمراض، وفي النهاية دخل ضمن أدوات تنفيذ السياسة الخارجية، بصرف النظر عن الهدف الذي يكمن في أجندة كل دولة.
نشرت إيما لويز أندرسون، من كلية السياسة والدراسات الدولية بجامعة ليدز بالمملكة المتحدة، دراسة قبل عامين، بمجلة العلاقات الدولية، بعنوان عريض “دبلوماسية الصحة الأفريقية.. التعتيم على السلطة والاستفادة من الاعتمادية من خلال دبلوماسية الظل”، وهي دراسة توصف بـ”العُمدة” في التأريخ لهذا النوع الذي كان المجال الصحي حاضرا فيه بوضوح.
يبدو أن هناك هجرة قسرية إلى هذه الدبلوماسية، حيث أصبحت عنصرا مهما لدى الدول الغنية والفقيرة، لأن الاهتمام بالقضايا الطبية والوقائية بدأ يتسع، حيث كشف فايروس كورونا المستجد عن أوجه عجز فاضح لا تُستثنى منه دولة كبيرة أو صغيرة، ولم تجد قوى كثيرة وسيلة لإظهار حرصها على العلاقات مع الآخرين بل وتطويرها سوى الاعتماد على سلاح المعدّات الطبية وملحقاتها المستخدمة في محاصرة - 19.
ما يعزز هذا الاتجاه الحرص الشديد من قبل البعض على إظهار التعاون من خلال الصحة، وقد يكون شعب دولة ما بحاجة إلى المساعدات التي ترسلها قيادته إلى أخرى، لكنها تحرص على عدم التقاعس، لأن هذا النوع من الدبلوماسية سوف تترتب عليه نتائج ربما تلعب دورا في رسم شكل العالم في مرحلة ما بعد كورونا، من تعاون، ومن تخاذل، ومن قرصَن، ومن نسّق في مجال الأبحاث، ومن حاول السطو على جهود لآخرين.
هناك قائمة طويلة تشير إلى أن ما يحدث الآن من تحركات طبية، فردية أو جماعية، ستكون له تداعيات مستقبلية، لأن مجال الصحة أصبح يدرج بالفعل في مقدمة أولويات الدول، ويمكن للفضاء الرحب الذي يعيش فيه العالم أن يكون مهددا من الأوبئة أكثر من القنابل الذرية، فكورونا المستجد يعتبره بعض العلماء حلقة في سلسلة مجهولة تتطلب رفع مستوى الجاهزية العلمية، الأمر الذي يفرض الوصول إلى تعاون من نوع خاص في مجال الصحة يرقى إلى مرتبة الاتفاقيات المعروفة بوقف الانتشار النووي، والحدّ من الأسلحة الذرية.
يضفي وضع دبلوماسية الأوبئة ضمن الأطر الرئيسية في العلاقات الدولية طابعا جديدا على التوجّهات المقبلة بالنسبة لشكل النظام الدولي، لأن الصحة ليست طارئا عرضيا ينتهي مع التوصل إلى لقاح ناجح وفعال، حيث شدت المحنة الأنظار إلى مجال غاب طويلا عن أجندة التعاون بين الدولي، وجرى اعتباره زاوية هامشية أو مشكلة تخصّ الدول النامية فقط، حتى استيقظ العالم على فاجعة كورونا المستجد الذي جعل الطواقم الطبية تقود السياسة الخارجية للدول.
0 تعليق على موضوع : الهجرة إلى دبلوماسية الصحة العالمية
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات