أيام قليلة فصلت بين انعقاد مؤتمر ميونيخ للأمن والقمة العربية الأوروبية فى شرم الشيخ، وكأن القمة جاءت تستكمل مناقشة القضايا التى طرحها المؤتمر، أو ترجمة ما تمخض عنه. فقد أظهر مؤتمر ميونيخ أن العرب وأوروبا تجمعهم آمال وهموم مشتركة، ووضح أن المسافة تزداد بين ضفتى الأطلنطى، فالولايات المتحدة تبتعد أكثر فأكثر عن حلفائها التقليديين فى أوروبا حتى إنها خرجت من اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية القصيرة والمتوسطة المدى دون أن تستشير أو تأخذ فى اعتبارها الأمن الأوروبى الذى يتضرر مباشرة من إلغاء الاتفاقية، ويترك أوروبا عرضة لتهديدات روسيا القريبة والقادرة على إثارة الفزع من إعادة سباق التسلح وأن تصبح رهينة ذلك الصراع المخيف.
قد أدركت أوروبا أن ما يجمعها مع العرب كثير جدا وأن التهديدات والمخاطر تكاد تكون واحدة، وقد أثبتت سنوات ما يسمى بـ«الربيع العربى» أن العواصم العربية والأوروبية معرضة للمخاطر نفسها، فالإرهاب الذى ضرب مصر وسوريا والعراق وليبيا.. وغيرها من البلدان العربية هو نفسه الذى ضرب بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبى، وأن القضاء عليه واجتثاث أفكاره المدمرة هدف مشترك، حيث تنتقل الأفكار بسهولة على جانبى البحر المتوسط، وهناك جاليات على اتصال دائم بالبلدان الأم تتأثر بما يحدث فيها، وأن تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فى منطقتنا العربية لا يمكن لدول الاتحاد الأوروبى أن تتجنبه، فعندما تزداد البطالة وتضيق فرص العيش بسبب الأزمات والفوضى التى عصفت بالمنطقة لا يجد المهاجرون أقرب من أوروبا التى يصلونها عبر القوارب بحرا من شواطئ سوريا فى أقصى شرق المتوسط إلى المغرب وموريتانيا فى أقصى الغرب، فأعداد القوارب المتسللة إلى شواطئ جنوب أوروبا تتزايد كلما تفاقمت الأزمات والفوضى فى البلاد العربية لتنقل الأزمة الإنسانية إلى أوروبا، ولا يمكن إيجاد حل حقيقى لها إلا باستعادة المنطقة العربية للأمن والاستقرار، وهذا ما تأكدت منه دول الاتحاد الأوروبى التى تضع مشكلات الهجرة والإرهاب على رأس أولوياتها، وهو ما ظهر فى مؤتمر ميونيخ الذى نظمته ألمانيا والقمة العربية ـ الأوروبية التى انعقدت فى شرم الشيخ أخيرا وتشابهت فيهما التوصيات وبرامج العمل.
الطريق من ميونيخ إلى شرم الشيخ أصبح أكثر وضوحا وقربا من أى وقت مضى، ودول الاتحاد الأوروبى تجد أن الجامعة العربية يمكن أن تكون إطارا يحذو حذوها ولها أهداف متقاربة وآمال مشتركة لجيرانها العرب، ويمكن للكتلتين أن يعملا معا فى سبيل تعزيز الأمن الدولى وفى القلب منه أوروبا والمنطقة العربية، بل ستكون تلك المنطقة هى جسر التلاقى بين الولايات المتحدة فى الغرب والصين وروسيا فى الشرق، وبدلا من السباق على التسلح وإثارة النزاعات يمكن أن نشترك فى سباق نحو التنمية وحل مشكلات البطالة والديون بتخصيص أموال سباق التسلح للبناء وتطوير الطاقات وتوفير فرص عمل للشباب، وهو ما يوفر الأمن والتنمية معا على ضفتى البحر المتوسط، وقد رأينا أن قوائم الأسرى من تنظيم داعش الإرهابى مليئة بأسماء القادمين من دول الاتحاد الأوروبى ويحملون جنسية دولة ما، وكيف أن اتساع نطاق الإرهاب فى ليبيا قد ينتج عنه تدفق هائل للاجئين إلى أوروبا، سبقه تدفق أكبر من سوريا عبر البر والبحر.
لقد وضح خلال قمة شرم الشيخ أن وجهات نظر العرب والأوروبيين أقرب كثيرا فى العديد من القضايا الجوهرية، فدول الاتحاد الأوروبى كانت أقرب لمبادرة السلام العربية من الولايات المتحدة ورفضت فيها الخطوات الأمريكية المنفردة بشأن القدس وتطابق موقفها مع الرؤية العربية المتعلقة بإيجاد حل عادل ودائم للقضية الفلسطينية يقوم على أساس إقامة دولتين على مرجعية قرار مجلس الأمن الدولى رقم 242 حول الانسحاب الإسرائيلى إلى حدود الرابع من يونيو 1967 وأن القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية فى الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن شأن التوصل إلى حل هذه القضية يجب أن يخفف من الاحتقان والنزاع الدائم طوال العقود الماضية، ومن خلال توافق عربى ـ أوروبى يمكن أن يكون الحل أقرب من أى وقت مضى ما دامت توافرت قوة دفع منسجمة تضم دول الاتحاد الأوروبى والجامعة العربية.
امتد التوافق العربى الأوروبى إلى العديد من القضايا الأخرى، منها سبل الحد من المخاطر التى تشكلها البرامج الصاروخية والنووية لإيران وأن الحل السلمى بالتفاوض يمكن أن يحقق نتيجة أفضل من الأدوات التى قد تزيد من مخاطر اندلاع حروب ستكون كارثية لجميع الأطراف، فأوروبا تتمسك بالاتفاق النووى مع طهران وتراه خطوة جيدة باتجاه حل أقل تكلفة وأكثر واقعية من الخروج من الاتفاق الذى سيؤدى إلى امتلاك إيران لسلاح نووى سيشكل مخاطر جسيمة على دول المنطقة التى ستكون فى مرمى تلك الصواريخ.
يمكن بجهد مشترك ممارسة الضغوط على إيران لتغيير سياساتها تجاه دول المنطقة، بأن تضع حدا لبرامج صواريخها الباليستية، بالإضافة إلى وضع قيود على برنامجها النووي.. وإذا ما تحقق هذا الهدف إلى جانب الحل العادل للقضية الفلسطينية فإن القمة العربية ـ الأوروبية ستكون بداية جديدة وخطوة تاريخية فى سبيل تحويل أزمات المنطقة إلى خطوات واسعة وجادة نحو السلم والأمن والتنمية والرخاء.
إننا فى حاجة إلى معجزة تنتشل العالم والمنطقة من أزمات ونزاعات تطبق عليها من كل جهة، تكاد تجرنا جميعا إلى حروب مدمرة.. لقد جاءت قمة شرم الشيخ لتلقى لنا طوق نجاة يجب أن نتشبث به ليأخذنا إلى بر الأمان الذى رأيناه فى الطريق الواصل بين شرم الشيخ وميونيخ.
رئيس تحرير صحيفة الاهرام المصرية
0 تعليق على موضوع : قمة التلاقى العربى ــ الأوروبى
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات