انتقلت احتجاجات "السترات الصفراء" فى فرنسا من الواقع الافتراضى –وسائل التواصل الاجتماعى- إلى العالم الحقيقى، قائدها ومنظمها وموجهها هو "الفيس بوك".
كان هذا الانتقال يفوق فى قوته وتأثيره توقعات الدوائر الرسمية والحكومية. اختار المحتجون والمتظاهرون هذه العلامة أى "السترات السفراء" التى يتوجب على كل قائد سيارة ارتدائها عند أى عطل يصيب سيارته حتى يمكن رؤيته، ظاهر هذا الاختيار مرتبط بارتفاع الضرائب على المحروقات والوقود ومن ثم ارتفاع أسعارها وهى المناسبة التى أشعلت فتيل الاحتجاجات. أما فيما وراء ذلك الظاهر، فيتمثل فى التوحد بين المحتجين وخلق وحدة وتماسك وتجانس حول مطالبهم.
وأصبحت هذه العلامة دالة فى تشابه الأوساط الاجتماعية والطبقية التى ينتمى إليها المحتجون، فجميعهم يعانون من الإفراط فى تحمل العبء الضريبى الذى تفرضه سياسات الإصلاح التى يطبقها الرئيس الفرنسى وحكومته لتعزيز الاقتصاد الفرنسى وتدعيم قدرته على المنافسة. حتى المتعاطفون مع المتظاهرين من نواب وشخصيات سياسية وحزبية حملوا هذه السترة للتعبير عن تعاطفهم مع المتظاهرين ومطالبهم.
توزعت الخريطة الجغرافية التى ينتمى إليها أصحاب "السترات الصفراء" على المناطق والأقاليم والمدن الصغرى والأرياف من أعماق فرنسا، فهم بعيدون عن العاصمة التى تتخذ فيها القرارات. أما الخريطة الاجتماعية والطبقية فتمتد من الطبقات الشعبية التى تضم الحرفيين والموظفين، وشريحة من العمال والفلاحين الذين تعتبر السيارة وسيلة الانتقال الأساسية إلى أعمالهم وحقولهم، إلى الشرائح الصغرى والدنيا من الطبقة المتوسطة الفرنسية؛ الكوادر المتوسطة وأصحاب المحال الصغيرة وبعض المهنيين. القاسم المشترك بين هؤلاء جميعا يتمثل فى تحمل هذه الفئات للعبء الضريبى الأكبر من تكلفة إصلاح الاقتصاد الفرنسى والسياسات المالية التى يتطلبها ومعاناتهم الناجمة عن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
توزعت الخريطة الجغرافية التى ينتمى إليها أصحاب "السترات الصفراء" على المناطق والأقاليم والمدن الصغرى والأرياف من أعماق فرنسا، فهم بعيدون عن العاصمة التى تتخذ فيها القرارات. أما الخريطة الاجتماعية والطبقية فتمتد من الطبقات الشعبية التى تضم الحرفيين والموظفين، وشريحة من العمال والفلاحين الذين تعتبر السيارة وسيلة الانتقال الأساسية إلى أعمالهم وحقولهم، إلى الشرائح الصغرى والدنيا من الطبقة المتوسطة الفرنسية؛ الكوادر المتوسطة وأصحاب المحال الصغيرة وبعض المهنيين. القاسم المشترك بين هؤلاء جميعا يتمثل فى تحمل هذه الفئات للعبء الضريبى الأكبر من تكلفة إصلاح الاقتصاد الفرنسى والسياسات المالية التى يتطلبها ومعاناتهم الناجمة عن اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
الأغنياء يحظون بإعفاءات ضريبية لشركاتهم وأعمالهم، فضلا عن إعفائهم من ضريبة الثروات، باستثناء إبقاء هذه الضريبة على الثروات العقارية. وعلى الجانب الآخر، فإن القاسم المشترك بين الفقراء يتمثل فى أن دخولهم تتراوح بين 1250- 3500 يورور شهريا بدء من المتقاعدين والحرفيين والموظفين ومرورا بالكوادر المتوسطة وبعض المهنيين.
فى بداية هذه الاحتجاجات أصرت الحكومة والرئيس على عدم التراجع عن هذه القرارات، رغم التصريح بتفهم معاناة المحتجين ومطالبهم. والأهم من ذلك أن خطاب الرئيس ماكرون فى البداية لم يظهر كثيرا من الاحترام لهم، حيث تحدث عن الكسالى والعاطلين عن العمل "والصيع"، لكن مع استمرار الاحتجاجات واتجاهها إلى العنف، خاصة ذلك الذى طال رموز الدولة ومؤسساتها ومراكز المحلات الفخمة التى يرتادها الأغنياء فى أشهر شوارع باريس "الشانزليزية"، جنحت الحكومة والرئيس إلى التراجع من خلال إلغاء ضريبة المحروقات ووقف فرض ضرائب جديدة خلال العام المقبل، وزيادة 100 يورو للحد الأدنى للدخل وهى زيادة تقدر بثلاثة أضعاف ما كانت وزيرة العمل تتحدث عنه. كذلك فتح ماكرون الباب للحوار الوطنى فى كل المناطق والأقاليم المعنية، والتى عبرت عن هذه المطالب. وهكذا، اتخذت الحكومة والرئيس بعد خسارة الرهان على إرهاق المحتجين ونفاذ طاقتهم، حزمة كبيرة من الإجراءات والقرارات التى تكلف الدولة الفرنسية ما يقدر وفق العديد من الخبراء حوالي 10 بلايين يورو. والأهم من ذلك على صعيد رد الاعتبار للمتظاهرين، اعتذر الرئيس الفرنسى عن جرح مشاعر بعض هؤلاء أثناء تصريحاته خلال الأزمة.
لا شك أن هذه القرارات برغم تكلفتها، إلا أنها تبدو حتى الآن غير كافية، فهى قد نجحت جزئيا فى إحداث انقسام فى صفوف المتظاهرين بين مؤيد وبين متحفظ عليها، الأولون -أى المؤيدون- يرون أن العديد من مطالبهم تحققت والباقى متروك للحوار الوطنى بين الفاعلين من الدولة والأقاليم والمناطق. أما الآخرون -أى الذين يرون أنها غير كافية- فهم يرون أنها قرارات حسابية فنية فى حين أن الأزمة التى أشتعل فتيلها هي أزمة سياسية فى المقام الأول، وينبغى أن يكون الحل كذلك، أى قرارات تتعلق بتعزيز الديموقراطية وتجاوز الفجوة بين النخب الحاكمة وبين القاعدة العريضة من المواطنين، والتوازن بين السلطات على الصعيد الأوروبى والصعيد الوطنى.
أخطر ما فى هذه الأزمة يتمثل فى الضرر الذى لحق بصورة الرئيس الفرنسى واعتباره من قبل المتظاهرين "رئيس الأغنياء"، وهو الشعار الذى يعبر ويشير إلى انحياز الرئيس القادم من عالم الأعمال والمال إلى الأغنياء والأثرياء وعدم إنصاته لأصوات الطبقات الشعبية، واعتقاده ،أى الرئيس، أنه يفهم ما لا يفهمه المتظاهرون وأنه وحده القادر على تعيين الطريق الذى يسير فيه الاقتصاد الفرنسى والمجتمع أيضا. صورة الرئيس المنحاز للأغنياء والمتعالى على الفقراء، وحدها هى الخطر الذى يحدق بماكرون والذى يلقى ظلالا من الشك حول قدرته على الترشح لولاية ثانية، وبذلك قد يلحق بسابقيه "نيكولا ساركوزى"، وفرانسوا هولاند" رغم أنهم جميعا من تيارات سياسية مختلفة. ويتوقف الأمر فى النهاية على قدرة الرئيس ومعاونيه على استيعاب الدروس واستخلاص النتائج، وإعادة هيكلة سياسات الإصلاح المالى والاقتصادى والضريبى على ضوء الموازنة والتوازن بين متطلبات الإصلاح ومعاييره على الصعيد الأوروبى وبين متطلبات الاستقرار الاجتماعى على الصعيد الوطنى. وكذلك التوازن بين السلطات على الصعيد الأوروبى والسلطات على الصعيد الوطنى، وبالإضافة إلى ذلك المساواة فى توزيع وتحمل عبء الإصلاح والتغيير بين الطبقات الثرية والفقيرة والمتوسطة وفق النسبة والتناسب بين أوضاع هذه الطبقات.
إن الأزمة التى كشفت عنها احتجاجات "السترات الصفراء" لم تقتصر على البعد الاقتصادى والاجتماعى والعدالة فى توزيع عبء الإصلاح، بل كشفت أيضا عن فجوة ثقافية بين المحتجين والطبقات التى ينتمون إليها، وبين غيرهم من أبناء النخبة والطبقات الثرية، فأغلبية من المحتجين لا يعرفون المسرح والأوبرا والفاعليات الثقافية والفنية من موسيقى وفنون وباليه ومادون ذلك من هذه الإبداعات، فدخولهم لا تسمح لهم بشراء تذاكر لحضور هذه الفاعليات، كما أن أوضاعهم الاجتماعية والجغرافية لا تمكنهم من الحصول على دعوات مجانية لحضور بعض هذه الفاعليات من المشرفين والقائمين على تنظيم مثل هذه العروض، فهم غير قادرين ماديا وكذلك معزولين جغرافيا.
كشفت استطلاعات الرأى العام التى أجريت أثناء وبعد هذه الاحتجاجات عن ازدياد نسبة المؤيدين لمطالب المحتجين بما يقرب من 75% ممن خضعوا لمثل هذه الاستطلاعات. كما أن شعبية الرئيس انتقصت بشكل كبير ووصلت إلى مستوى غير مسبوق.
والمفارقة أنه رغم قلة عدد المحتجين فى هذه المظاهرات إلا أنها حظت بنسبة تأييد أكبر بين المواطنين، على خلاف العديد من الاحتجاجات التى فاقت هذه الاحتجاجات فى العدد بينما قلت نسبة تأييدها من الرأى العام والمواطنين.
الانتخابات البرلمانية المقبلة للبرلمان الأوروبى قد تكون أول اختبار سياسى حقيقى لتأثير هذه الاحتجاجات على كيفية تشكيل خريطة الأعضاء الفرنسيين المرشحين والناجحين فى البرلمان الأوروبى القادم، وهو ما يخشاه الآن الرئيس والحكومة الفرنسية، حيث يطمح الرئيس إلى زعامة أوروبا الموحدة وملء الفراغ الذى ستتركه "انجيلا ميركل" والذى حاول تهيئة فرنسا لهذا الدور
================
د. عبد العليم محمد
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
فى بداية هذه الاحتجاجات أصرت الحكومة والرئيس على عدم التراجع عن هذه القرارات، رغم التصريح بتفهم معاناة المحتجين ومطالبهم. والأهم من ذلك أن خطاب الرئيس ماكرون فى البداية لم يظهر كثيرا من الاحترام لهم، حيث تحدث عن الكسالى والعاطلين عن العمل "والصيع"، لكن مع استمرار الاحتجاجات واتجاهها إلى العنف، خاصة ذلك الذى طال رموز الدولة ومؤسساتها ومراكز المحلات الفخمة التى يرتادها الأغنياء فى أشهر شوارع باريس "الشانزليزية"، جنحت الحكومة والرئيس إلى التراجع من خلال إلغاء ضريبة المحروقات ووقف فرض ضرائب جديدة خلال العام المقبل، وزيادة 100 يورو للحد الأدنى للدخل وهى زيادة تقدر بثلاثة أضعاف ما كانت وزيرة العمل تتحدث عنه. كذلك فتح ماكرون الباب للحوار الوطنى فى كل المناطق والأقاليم المعنية، والتى عبرت عن هذه المطالب. وهكذا، اتخذت الحكومة والرئيس بعد خسارة الرهان على إرهاق المحتجين ونفاذ طاقتهم، حزمة كبيرة من الإجراءات والقرارات التى تكلف الدولة الفرنسية ما يقدر وفق العديد من الخبراء حوالي 10 بلايين يورو. والأهم من ذلك على صعيد رد الاعتبار للمتظاهرين، اعتذر الرئيس الفرنسى عن جرح مشاعر بعض هؤلاء أثناء تصريحاته خلال الأزمة.
لا شك أن هذه القرارات برغم تكلفتها، إلا أنها تبدو حتى الآن غير كافية، فهى قد نجحت جزئيا فى إحداث انقسام فى صفوف المتظاهرين بين مؤيد وبين متحفظ عليها، الأولون -أى المؤيدون- يرون أن العديد من مطالبهم تحققت والباقى متروك للحوار الوطنى بين الفاعلين من الدولة والأقاليم والمناطق. أما الآخرون -أى الذين يرون أنها غير كافية- فهم يرون أنها قرارات حسابية فنية فى حين أن الأزمة التى أشتعل فتيلها هي أزمة سياسية فى المقام الأول، وينبغى أن يكون الحل كذلك، أى قرارات تتعلق بتعزيز الديموقراطية وتجاوز الفجوة بين النخب الحاكمة وبين القاعدة العريضة من المواطنين، والتوازن بين السلطات على الصعيد الأوروبى والصعيد الوطنى.
أخطر ما فى هذه الأزمة يتمثل فى الضرر الذى لحق بصورة الرئيس الفرنسى واعتباره من قبل المتظاهرين "رئيس الأغنياء"، وهو الشعار الذى يعبر ويشير إلى انحياز الرئيس القادم من عالم الأعمال والمال إلى الأغنياء والأثرياء وعدم إنصاته لأصوات الطبقات الشعبية، واعتقاده ،أى الرئيس، أنه يفهم ما لا يفهمه المتظاهرون وأنه وحده القادر على تعيين الطريق الذى يسير فيه الاقتصاد الفرنسى والمجتمع أيضا. صورة الرئيس المنحاز للأغنياء والمتعالى على الفقراء، وحدها هى الخطر الذى يحدق بماكرون والذى يلقى ظلالا من الشك حول قدرته على الترشح لولاية ثانية، وبذلك قد يلحق بسابقيه "نيكولا ساركوزى"، وفرانسوا هولاند" رغم أنهم جميعا من تيارات سياسية مختلفة. ويتوقف الأمر فى النهاية على قدرة الرئيس ومعاونيه على استيعاب الدروس واستخلاص النتائج، وإعادة هيكلة سياسات الإصلاح المالى والاقتصادى والضريبى على ضوء الموازنة والتوازن بين متطلبات الإصلاح ومعاييره على الصعيد الأوروبى وبين متطلبات الاستقرار الاجتماعى على الصعيد الوطنى. وكذلك التوازن بين السلطات على الصعيد الأوروبى والسلطات على الصعيد الوطنى، وبالإضافة إلى ذلك المساواة فى توزيع وتحمل عبء الإصلاح والتغيير بين الطبقات الثرية والفقيرة والمتوسطة وفق النسبة والتناسب بين أوضاع هذه الطبقات.
إن الأزمة التى كشفت عنها احتجاجات "السترات الصفراء" لم تقتصر على البعد الاقتصادى والاجتماعى والعدالة فى توزيع عبء الإصلاح، بل كشفت أيضا عن فجوة ثقافية بين المحتجين والطبقات التى ينتمون إليها، وبين غيرهم من أبناء النخبة والطبقات الثرية، فأغلبية من المحتجين لا يعرفون المسرح والأوبرا والفاعليات الثقافية والفنية من موسيقى وفنون وباليه ومادون ذلك من هذه الإبداعات، فدخولهم لا تسمح لهم بشراء تذاكر لحضور هذه الفاعليات، كما أن أوضاعهم الاجتماعية والجغرافية لا تمكنهم من الحصول على دعوات مجانية لحضور بعض هذه الفاعليات من المشرفين والقائمين على تنظيم مثل هذه العروض، فهم غير قادرين ماديا وكذلك معزولين جغرافيا.
كشفت استطلاعات الرأى العام التى أجريت أثناء وبعد هذه الاحتجاجات عن ازدياد نسبة المؤيدين لمطالب المحتجين بما يقرب من 75% ممن خضعوا لمثل هذه الاستطلاعات. كما أن شعبية الرئيس انتقصت بشكل كبير ووصلت إلى مستوى غير مسبوق.
والمفارقة أنه رغم قلة عدد المحتجين فى هذه المظاهرات إلا أنها حظت بنسبة تأييد أكبر بين المواطنين، على خلاف العديد من الاحتجاجات التى فاقت هذه الاحتجاجات فى العدد بينما قلت نسبة تأييدها من الرأى العام والمواطنين.
الانتخابات البرلمانية المقبلة للبرلمان الأوروبى قد تكون أول اختبار سياسى حقيقى لتأثير هذه الاحتجاجات على كيفية تشكيل خريطة الأعضاء الفرنسيين المرشحين والناجحين فى البرلمان الأوروبى القادم، وهو ما يخشاه الآن الرئيس والحكومة الفرنسية، حيث يطمح الرئيس إلى زعامة أوروبا الموحدة وملء الفراغ الذى ستتركه "انجيلا ميركل" والذى حاول تهيئة فرنسا لهذا الدور
================
د. عبد العليم محمد
مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.
0 تعليق على موضوع : احتجاجات فرنسا... إعادة النظر فى سياسات الإصلاح // بقلم : د. عبد العليم محمد
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات