لم تخل دعوات تجديد الخطاب الديني في مصر من إرادة حقيقية للتغيير، ورغبة في تطهير العقول مما علق بها من شوائب التطرف والفكر المغلوط، وعلى رغم ما يُبذل من جهود مخلصة في هذا الاتجاه، إلا أنها مازالت من دون عائد، ذلك أن التجديد في الغالب لا يحدث بقرارات، ولا تجدي معه لجان رسمية مُشكلة، والحقيقة أننا لن نصل إلى نهاية الطريق بينما نصر على السير عكس الاتجاه، فالتغيير يأتي دوماً من أسفل وليس العكس، وربما تكون العقبة الأكبر التي تقف حائلاً أمام دعوات التجديد بشكل عام هي زاوية النظر ونطاق الرؤية، فعندما تنظر من أعلى تفقد تدريجياً تفاصيل المشهد وتغرق في العموميات، لتجد نفسك في نهاية الأمر تسلك طريقاً سهلاً ممهداً، ولكنه لا يؤدي إلى شيء، وفي ظل ما تطرحه القضية من إشكالات وتعقيدات تجعل من الصعوبة الإلمام بجميع أبعادها والسيطرة على كافة العوامل المنتجة أو المؤثرة على الخطاب الديني، فغالباً ما يبدو اللجوء إلى الدعاة بمثابة الحل القريب الذي نسعى من خلاله للوصول إلى نتائج بعيدة، لنحمله فوق ما يحتمل.
ومن هنا تبدو أهمية البعد النفسي الذي يمثل نقطة الانطلاق والوصول، وقد تناول علماء النفس مختلف القضايا المتعلقة بالدين، وأجريت عدد من الدراسات التي تناولت العلاقة بين التدين الظاهري والتدين الجوهري، وصيغت عدد من الرؤى النظرية التي حاولت البحث في وظيفة الدين لدى المواطن العادي ودورها المؤثر في إشباع احتياجاته الحالية ومنحه الشعور باليقين حيال المستقبل، وتجنبه للعمليات المعرفية المعقدة أو المواقف الغامضة، وسعيه لما يُطلق عليه علماء النفس «الانغلاق المعرفي»، الذي يعد بمثابة الدافع إلى صوغ رأي واضح وسريع ودائم حول قضية ما، بدلاً من الدخول في دائرة الارتباك والغموض، وهو ما يجعله ينصاع بسهولة للرؤى الغيبية، والحلول المطمئنة، فتفسيرات الدين تتلاقى دوما مع رغباته وتلبي احتياجاته وتريحه من عناء التفكير. وبالتالي؛ وقبل المبادرة بإعادة صوغ الخطاب الديني فنحن بحاجة لأن نتراجع خطوة للخلف قليلاً لإعادة النظر في آليات صوغ عقل المتلقي، فالتجديد سيبدو مجدياً ومنطقياً عندما توجه خطابك إلى عقل مفكر، ومرن، وقادر على تقبل الاختلاف، ولا مانع لديه من بذل جهد ذهني للوصول للحقيقة، وبالتالي فنحن بحاجة إلى «تجديد الإنسان» وليس تجديد الخطاب، فعندما نقوم ببناء إنسان واعٍ سيتجدد الخطاب الديني من تلقاء نفسه، وسيسعى الفرد بنفسه للبحث عن قول وتفسير يخاطب عقله بدلاً من أن يغيبه، ولن يبدي ارتياحا للغموض، والحلول السهلة، والأفكار المتطرفة مهما أحسن صوغها، فالسباق في شكل ومضمون الرسالة بين الأئمة المعتدلين والمتطرفين لن يحسم لصالح الجانب المعتدل، إلا بموافقة المتلقي.
ولأن التجديد يجب أن يأتي من أسفل، فنقطة الانطلاق يجب أن تبدأ من «التعليم» المؤسسي داخل المدارس والجامعات والتعليم المجتمعي المستمد من وسائل التنشئة الاجتماعية المختلفة، وعلى رأسها وسائل الإعلام، وبعيداً عن قرارات ولجان التجديد الرسمية، يجب أن نبذل جهداً استثنائياً نعيد من خلاله النظر في الرسائل الإعلامية غير المحسوبة، والمناهج التعليمية المنتجة لعقول تفتقر للمرونة وعاجزة عن الانفتاح وتقبل الآخر، والحقيقة أن قضية «الخطاب الديني» هي قضية اجتماعية ثقافية نفسية في المقام الأول، وليست قضية دينية فقط، والعقل الراهن هو حصيلة تنشئة اجتماعية وليس فقط خطاب ديني متطرف أو مغلوط، وبالتالي حين نتحدث عن تجديد الخطاب الديني يجب ألا نسلك نفس السبيل كل مرة، ونحن نتوقع الوصول إلى نتائج مختلفة، وخطاب التجديد ليس دواء سحرياً نتجرعه ليلاً فنستيقظ مجددين، ومتسامحين، ومستوعبين للرؤى غير التقليدية في النظر للأمور، إنه عملية معقدة تتشابك فيها مختلف العوامل المنتجة للعقل وللإنسان بشكل عام، ومن هنا يجب البعد عن «تقليد» قرارات التجديد التي تحدث من دون تجديد، أو إبداع، وتقوم على رؤى نظرية حبيسة الأوراق والدراسات وأحاديث القاعات والملتقيات الإعلامية، بينما لا تجد لدى المتلقي العادي صدى أو جدوى، والبحث عن مقاربة عملية للوصول إلى النتيجة المثلى، من دون أن نضطر للدخول في سباق غير مجدي ربما لا يحسم لصالحنا.
0 تعليق على موضوع : تقليد تجديد الخطاب الديني // عزة هاشم
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات