لا يوجد من الوزراء كلهم من يثير حوله من الضجة والجدل مثلما يفعل وزير التعليم الدكتور طارق شوقى.. ولو أن أفعال الوزير كانت نصف أو حتى ربع أقواله، لكنا قد لمسنا قدراً من التحسن فى أوضاع التعليم.. لكننا نسمع تصريحات فخمة، ترسم لنا آفاقاً وردية سرعان ما تستحيل إلى سراب.. ووسط هذه الأحلام الوردية تأخذنا الوزارة فجأة فى اتجاه آخر تماماً بالحديث عن مشروع قانون ينزل أشد العقوبات بالمعلمين وأصحاب مراكز الدروس الخصوصية، وكأن هؤلاء هم السبب فى فساد التعليم، وليس ازدحام الفصول وسوء أوضاع المدارس، وتخلف المناهج ونظم التعليم وتدنى أجور المعلمين.. إلخ مما أفاضت فيه الأقلام فى الفترة الأخيرة.
ولكن الوزير لايكتفى بكل هذه البلبلة، بل يباغتنا بحديث مؤداه ضرورة إلغاء مجانية التعليم، باعتبار أن «العدالة المرجوة من المجانية لم تتحقق»!!! لماذا ياسيدى الوزير؟؟ يرد قائلاً: «إن الأسر تتكبد 120 مليار جنيه سنوياً تكلفة الدروس الخصوصية، كما تدفع الدولة 90 مليار جنيه، ولهذا نريد إعادة استغلال هذه الحصيلة لزيادة رواتب المدرسين وتحسين الخدمة!!
وهذا الكلام الخطير معناه أولا: إلغاء التزام الدولة بمجانية التعليم وفقاً للدستور، وتخصيص نسبة محددة من الناتج المحلى للإنفاق على التعليم بمختلف مراحله.. والحديث أوضح من أن يعود الوزير إلى إنكاره، كما فعل حينما ثار الرأى العام ضده (نص تصريحات الوزير فى المصرى اليوم 12 نوفمبر 2018) ومعناه ثانياً: أن الوزير لا يكتفى بانتهاك الدستور - الذى أقسم على احترامه - بل يريد أن تنسحب الدولة من مسئولياتها السياسية والاجتماعية تجاه التعليم على عكس ما يحدث فى العالم المتحضر كله إدراكاً لأهمية أوسع نشر ممكن للتعليم والارتقاء بمستواه كضرورة للأمن القومى والتنمية البشرية.. وهنا نلاحظ - ثالثاً : أن الوزير يبالغ كثيراً فيما تنفقه الأسر على الدروس الخصوصية زاعماً أن تكلفتها تبلغ (120 مليار جنيه) سنوياً.. ومحاولاً إيهامنا بأن هذا المبلغ إذا تم دفعه للدولة (بعد إلغاء المجانية طبعاً) سيكون كفيلاً بتحسين أوضاع التعليم والمعلمين!! ومعلوم أن تكلفة الدروس الخصوصية تتراوح بين (30 - 40 مليار جنيه) حيث تقديرات متفاوتة وليس (120 ملياراً) كما يقول الوزير.. وأن إلغاء المجانية لن يوقف الدروس الخصوصية، بدليل أن تلاميذ المدارس الخاصة - بل والدولية - يتلقون دروساً خصوصية هم الآخرون. وبأسعار أغلى من زملائهم فى المدارس الحكومية.. بالرغم مما يدفعه الأولون من مصروفات باهظة.
وهكذا يثير الوزير البلبلة فى صفوف الرأى العام ليغطى على فشل تنفيذ خطته الشهيرة (بخطة التابلت).. بعد أن عجز عن تسليم أجهزة التابلت إلى تلاميذ الصف الأول الثانوى حتى الآن، وبعد أن تقرر أن تجرى امتحانات الصف الأول الثانوى وفقاً للنظام القديم ولا يتم احتساب درجات هذا الصف ضمن المجموع التراكمى للثانوية العامة كما كان مقرراً (المصرى اليوم 28 / 11 / 2018).
ويستمر الوزير فى خلط الأوراق بالحديث عن حزنه على ضعف مستوى تدريس اللغة العربية تارة، وعزمه على تحسين مستوى تدريس اللغة الفرنسية تارة أخرى، وعن تأسيس «صندوق وقف لتطوير التعليم» تارة ثالثة بمساهمة قدرها (200 مليون جنيه) بالمشاركة بين وزارتى التعليم والأوقاف.. إلخ.. وهو مبلغ لا يسمن ولا يغنى من جوع.. وينسى أو يتناسى ما كان قد أعلنه منذ أسابيع عن حاجة البلاد لإنشاء (260 ألف فصل دراسى) بتكلفة قدرها (100 مليار جنيه.. قارن بالمبلغ الأخير!!) لكى يكون لدينا فصول ذات كثافة معقولة.. (40 تلميذا).. وهو المبلغ الذى عدله الرئيس السيسى فى مؤتمر شرم الشيخ إلى (130 مليار جنيه).. فى غضون ثلاث أو أربع سنوات (3 - 4) لبناء (250 ألف فصل دراسى).
وإذا كان الوزير يقفز من هدف إلى آخر.. ومن جدول زمنى إلى آخر متناسياً أو ناسياً ما سبق له قوله.. فإننا نأخذ حديث رئيس الجمهورية على محل الجد. خاصة أنه يرتبط بإدراك على أعلى مستويات السلطة فى البلاد لما قاله كل الخبراء وأهل الرأى الجادون عن استحالة إحداث تقدم جدى فى مستوى التعليم بدون حل مشكلة تكدس الفصول الدراسية. ويفترض أن يكون حديث الرئيس ملزماً للحكومة ولوزارة التعليم بصورة أخص (250 ألف فصل خلال 3 أو 4 سنوات) وهو أمر يعنى ضرورة إعادة تحديد أولويات الإنفاق الحكومى بما يتيح تحقيق هذا الهدف بالغ الأهمية.
ولو أن الوزير شوقى تعامل بجدية مع تصريح رئيس الجمهورية، لكان مفروضاً أن تكون فى وزارة التعليم الآن ورشة تفور بالعمل وبالتعاون مع وزارتى المالية والتخطيط للبحث عن الموارد التى يمكن إعادة توجيهها للتعليم، ومع وزارة التنمية المحلية وأجهزة السلطة المحلية ووحداتها للبحث عن قطع الأراضى المناسبة لبناء المدارس (10آلاف مدرسة متوسطة الحجم) (راجع مقالينا فى «الأموال» بهذا الشأن فى 1 و 8 / 11 / 2018) والبدء فى إجراءات الشراء ونزع الملكية.. بينما يتم تدبير الموارد اللازمة وفق عملية متدرجة خاصة بعد أن اتضح للجميع أن هذه هى نقطة البدء الصحيحة فعلاً لأى تطوير جديد للتعليم.. نعنى تقليل التكدس فى الفصول وصولاً إلى (40 تلميذاً.. وهى كثافة (مقبولة) وإن لم تكن ممتازة، بالنظر إلى أن معدلات كثافة الفصول فى الدول المتقدمة تدور حول (20 تلميذاً) وبحد أقصى (25 تلميذاً) فى الفصل.. وبديهى أن المدارس يجب أن يكون بها مكتبات ومعامل وغرف للنشاط المدرسى وملاعب.. إلخ.. كما يجب أن تكون بها بنية تحتية جيدة للحاسب الآلى وخدمة الإنترنت.. فبدون ذلك لن يمكن تنفيذ (خطة التابلت).
ياسيادة الوزير المسألة من الجدية بحيث أنها لا تحتمل أى مزاح، ولا هروب إلى الأمام بطرح أهداف جديدة وكل فترة والاستغراق فيها على أمل أن ينسى الناس الأهداف القديمة التى لم توفق فى تحقيقها.. فالأمر شديد الجدية لأنه يتعلق بمستقبل مصر،الذى لايمكن اقتحامه بدون إحداث طفرة جدية فى تطوير التعليم.
وإذا لم تكن قادراً على النهوض بهذه المسئولية الجسيمة فإن الأمانة تقتضى أن تترك مقعدك لمن هو أقدر منك على النهوض بها. . وقبل وبعد كل شىء واعلم ياسيدى أن مجانية التعليم لا ينبغى أبداً أن تكون موضوعاً للعبث.. لأنها ليست حقاً دستورياً فحسب، بل ضرورة أمن قومى ومستقبل.. فلم تتقدم دولة واحدة بدونها.




0 تعليق على موضوع : د. محمد فراج يكتب : مجانية التعليم.. حق دستورى.. وضرورة أمن قومى
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات