فى مثل هذه الأيام قبل مائة عام ولد الشرق الأوسط. نشبت الحرب العالمية الأولى فى عام 1914، وفى أتونها بدأت عملية المخاض.
انتهت الحرب فى عام 1918، وبنهايتها ولد الشرق الأوسط. كانت الدولة العثمانية ضمن من خسروا الحرب، وسقطت أقسامها العربية فى يد دول الاستعمار الأوروبي. ثار القوميون العرب ضد الحكم التركى لكنهم لم يفطنوا للخديعة الاستعمارية. سعى الثوار العرب لإنشاء مملكة عربية موحدة، فى حين اتفق الانجليز والفرنسيون على اقتسام بلاد المنطقة فيما بينهم فى اتفاق «سايكس بيكو» سيئ السمعة. رسمت الحدود، ووضعت بلاد العرب تحت الانتداب، حتى فازت بالاستقلال والسيادة بعد سنوات من النضال.
دعك من التقسيم والانتداب والخدع الاستعمارية، فكل هذا حدث قبل مائة عام، لكن يبقى السؤال ماذا فعل العرب بدولهم المستقلة؟ انتهت الحروب العالمية، وأغلب حروب العالم الإقليمية، إلا أن الحرب لم تتوقف فى الشرق الأوسط أبدا. منطقتنا مازالت حبلى بالصراعات وكل أشكال العنف، بدءا بمظاهرات الشوارع العنيفة وأعمال التخريب والإرهاب، وصولا إلى الحروب الأهلية وحروب الوكالة والحروب بين الدول، وتدخلات القوى الكبرى.
لم يرض عرب المشرق بدولهم المستقلة التى رسم الاستعمار حدودها. اعتبروها دولا مصطنعة وصنيعة استعمارية فنزعوا عنها كل شرعية. رفض القوميون العرب الدولة الوطنية، وحرموها من الشرعية التى منحوها فقط لدولة العرب الموحدة التى لم تأت أبدا. تراجع القوميون وجاء الإٍسلاميون، ورفضوا بدورهم منح الشرعية للدولة الوطنية؛ فهى مصنوعة استعماريا، أما الفكرة القومية نفسها فهى خديعة استعمارية انتشرت فى بلادنا بفعل مؤامرة ماسونية. نزع الإسلاميون عن الدولة الوطنية أى قيمة مبدئية أو أخلاقية، فالأوطان عندهم مجرد حفنة تراب. فقط دولة الخلافة الإسلامية الموحدة تستحق السعى لها والفداء من أجلها، ففعلوا بالضبط مثلما فعل القوميون العرب: أهدروا الدولة الموجودة فى اليد، ولم يؤسسوا أبدا الدولة التى فى خيالهم، والتى تبين فى النهاية أنها لم تكن أكثر من سراب وخداع بصيرة.
تسيد القوميون العرب والإسلاميون ساحات السياسة فى بلاد المشرق. لم تنشأ فى بلاد المنطقة تيارات ذات وزن، تقدر الدولة الوطنية وتحترمها، وتعتبرها وطنا نهائيا، ترضى وتقنع به، دون أن تشعر بنقص لا يكتمل إلا فى دولة الوحدة الجامعة العربية أو الإسلامية. يصعب فصل التمزق الراهن والحروب الأهلية الجارية فى دول عربية عديدة عن الأثر المدمر الذى خلفته العقائد العابرة للحدود - قومية وإسلامية - على السيكولوجيا والثقافة السياسية فى المشرق العربي.
أفلتت دول شمال إفريقيا العربية جزئيا من هذا المصير بسبب خروجها المبكر من السيطرة العثمانية المباشرة. فى مصر وتونس والمغرب والجزائر هويات وطنية متبلورة أسهمت فى تمتين الدولة الوطنية وتثبيتها. ومع هذا فإن دولة شمال إفريقيا لم تستطع مقاومة غواية دولة الوحدة الجامعة. المفارقة التى تستحق دراسة مطولة هى أن مصر، البلد العربى ذا الهوية الوطنية الأكثر تبلورا، كان هو نفسه من قدم للمنطقة تيار وجماعة الإخوان، كما قدم لها الناصرية كواحدة من الطبعات الرئيسية لعقيدة القومية العربية.
دولة اسايكس بيكو« التى حصل عليها العرب كانت أصغر من حلم الوحدة القومية أو الإسلامية الذى داعب خيالهم، لكنها كانت فى الحقيقة أكبر من طاقتهم على ممارسة الحكم وبناء سلطة عادلة نزيهة وديمقراطية. نجح جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، أول من تسلم دولة اسايكس بيكو«، نجح فى إقامة برلمانات وأحزاب وانتخابات ونقابات وقدر لا بأس به من حرية التعبير. لكن الديمقراطية بطيئة وغير ناجزة ومنحازة للاستقرار والأمر الواقع، وكلها أشياء لا يحبها الثوريون. كره جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ذو النزعات الثورية البرلمانات والانتخابات وتعدد الأحزاب. لم يطق الثوريون بطء الديمقراطية، وأرادوا إنجازا سريعا للوحدة القومية والاشتراكية والقوة فى الاقتصاد والجيش وأجهزة الدولة. تولى الثوريون القضاء على مؤسسات الحكم والسياسة التمثيلية، وبنوا مكانها دولة مركزية كلية القدرة، المصمتة تماما من جميع الجهات، والتى مازالت شعوب المنطقة تجاهد لفتح بعض النوافذ الصغيرة فى جدرانها. ساهمت جميع تيارات العرب الأيديولوجية فى تقويض البرلمانات والنظم التمثيلية. فعلها القوميون العرب البعثيون فى سوريا، والإسلاميون فى السودان، والشيوعيون فى العراق، والوطنيون فى مصر. يبدو أن كراهية الديمقراطية هى الشيء الوحيد الذى يجمع بين كل هؤلاء الفرقاء، فلا عجب من التأزم السياسى السائد فى أغلب بلاد المنطقة.
مائة عام من إهدار الوقت والفرص الضائعة. هذا هو تاريخ العرب فى الشرق الأوسط. كانت لدينا فلسطين كاملة، فخسرنا نصفها عام 1948، وخسرنا نصفها الآخر عام 1967، وفى كل مرة كانت هناك فرصة ضئيلة لاستعادة بعض من حق العرب فى فلسطين كنا نأتى متأخرين؛ لنواصل فى كل اليوم الندم على ما رفضناه بالأمس.
حلم الوحدة الكبير والمراوغ حققناه. توحدت مصر وسوريا عام 1958 لأكثر من ثلاثة أعوام تحت رئاسة جمال عبد الناصر. قبل السوريون بحل الأحزاب السياسية فى بلادهم استجابة لمطالب الزعيم، وأسقط البلدان اسميهما، واستبدلاه بالاسم العمومي: الجمهورية العربية المتحدة. فشلنا فى حماية دولة الوحدة، فأسقطها انقلاب عسكرى بسهولة. انقلب القوميون الثوريون على الانفصاليين، لكنهم لم ينجحوا أبدا فى إعادة بناء دولة الوحدة. مع هذا، ظل القوميون الثوريون يعايرون الآخرين بأنهم ليسوا وحدويين ولا عروبيين بما فيه الكفاية، فكانوا سببا فى تعميق الانقسام بدلا من تقريب الوحدة.
فى لحظة الميلاد؛ جرى تعميد العالم العربى بنيران الحرب العالمية الأولى ودمائها. بعد مائة عام، ها هو العالم العربى يعاد تعميده بنيران الحروب الأهلية ودمارها. فهل تعلمنا شيئا من كل ما ارتكبناه من أخطاء، وهل لنا أن نتمنى أن تكون بلاد العرب أفضل حالا فى المائة عام المقبلة؟
دعك من التقسيم والانتداب والخدع الاستعمارية، فكل هذا حدث قبل مائة عام، لكن يبقى السؤال ماذا فعل العرب بدولهم المستقلة؟ انتهت الحروب العالمية، وأغلب حروب العالم الإقليمية، إلا أن الحرب لم تتوقف فى الشرق الأوسط أبدا. منطقتنا مازالت حبلى بالصراعات وكل أشكال العنف، بدءا بمظاهرات الشوارع العنيفة وأعمال التخريب والإرهاب، وصولا إلى الحروب الأهلية وحروب الوكالة والحروب بين الدول، وتدخلات القوى الكبرى.
لم يرض عرب المشرق بدولهم المستقلة التى رسم الاستعمار حدودها. اعتبروها دولا مصطنعة وصنيعة استعمارية فنزعوا عنها كل شرعية. رفض القوميون العرب الدولة الوطنية، وحرموها من الشرعية التى منحوها فقط لدولة العرب الموحدة التى لم تأت أبدا. تراجع القوميون وجاء الإٍسلاميون، ورفضوا بدورهم منح الشرعية للدولة الوطنية؛ فهى مصنوعة استعماريا، أما الفكرة القومية نفسها فهى خديعة استعمارية انتشرت فى بلادنا بفعل مؤامرة ماسونية. نزع الإسلاميون عن الدولة الوطنية أى قيمة مبدئية أو أخلاقية، فالأوطان عندهم مجرد حفنة تراب. فقط دولة الخلافة الإسلامية الموحدة تستحق السعى لها والفداء من أجلها، ففعلوا بالضبط مثلما فعل القوميون العرب: أهدروا الدولة الموجودة فى اليد، ولم يؤسسوا أبدا الدولة التى فى خيالهم، والتى تبين فى النهاية أنها لم تكن أكثر من سراب وخداع بصيرة.
تسيد القوميون العرب والإسلاميون ساحات السياسة فى بلاد المشرق. لم تنشأ فى بلاد المنطقة تيارات ذات وزن، تقدر الدولة الوطنية وتحترمها، وتعتبرها وطنا نهائيا، ترضى وتقنع به، دون أن تشعر بنقص لا يكتمل إلا فى دولة الوحدة الجامعة العربية أو الإسلامية. يصعب فصل التمزق الراهن والحروب الأهلية الجارية فى دول عربية عديدة عن الأثر المدمر الذى خلفته العقائد العابرة للحدود - قومية وإسلامية - على السيكولوجيا والثقافة السياسية فى المشرق العربي.
أفلتت دول شمال إفريقيا العربية جزئيا من هذا المصير بسبب خروجها المبكر من السيطرة العثمانية المباشرة. فى مصر وتونس والمغرب والجزائر هويات وطنية متبلورة أسهمت فى تمتين الدولة الوطنية وتثبيتها. ومع هذا فإن دولة شمال إفريقيا لم تستطع مقاومة غواية دولة الوحدة الجامعة. المفارقة التى تستحق دراسة مطولة هى أن مصر، البلد العربى ذا الهوية الوطنية الأكثر تبلورا، كان هو نفسه من قدم للمنطقة تيار وجماعة الإخوان، كما قدم لها الناصرية كواحدة من الطبعات الرئيسية لعقيدة القومية العربية.
دولة اسايكس بيكو« التى حصل عليها العرب كانت أصغر من حلم الوحدة القومية أو الإسلامية الذى داعب خيالهم، لكنها كانت فى الحقيقة أكبر من طاقتهم على ممارسة الحكم وبناء سلطة عادلة نزيهة وديمقراطية. نجح جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى، أول من تسلم دولة اسايكس بيكو«، نجح فى إقامة برلمانات وأحزاب وانتخابات ونقابات وقدر لا بأس به من حرية التعبير. لكن الديمقراطية بطيئة وغير ناجزة ومنحازة للاستقرار والأمر الواقع، وكلها أشياء لا يحبها الثوريون. كره جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية ذو النزعات الثورية البرلمانات والانتخابات وتعدد الأحزاب. لم يطق الثوريون بطء الديمقراطية، وأرادوا إنجازا سريعا للوحدة القومية والاشتراكية والقوة فى الاقتصاد والجيش وأجهزة الدولة. تولى الثوريون القضاء على مؤسسات الحكم والسياسة التمثيلية، وبنوا مكانها دولة مركزية كلية القدرة، المصمتة تماما من جميع الجهات، والتى مازالت شعوب المنطقة تجاهد لفتح بعض النوافذ الصغيرة فى جدرانها. ساهمت جميع تيارات العرب الأيديولوجية فى تقويض البرلمانات والنظم التمثيلية. فعلها القوميون العرب البعثيون فى سوريا، والإسلاميون فى السودان، والشيوعيون فى العراق، والوطنيون فى مصر. يبدو أن كراهية الديمقراطية هى الشيء الوحيد الذى يجمع بين كل هؤلاء الفرقاء، فلا عجب من التأزم السياسى السائد فى أغلب بلاد المنطقة.
مائة عام من إهدار الوقت والفرص الضائعة. هذا هو تاريخ العرب فى الشرق الأوسط. كانت لدينا فلسطين كاملة، فخسرنا نصفها عام 1948، وخسرنا نصفها الآخر عام 1967، وفى كل مرة كانت هناك فرصة ضئيلة لاستعادة بعض من حق العرب فى فلسطين كنا نأتى متأخرين؛ لنواصل فى كل اليوم الندم على ما رفضناه بالأمس.
حلم الوحدة الكبير والمراوغ حققناه. توحدت مصر وسوريا عام 1958 لأكثر من ثلاثة أعوام تحت رئاسة جمال عبد الناصر. قبل السوريون بحل الأحزاب السياسية فى بلادهم استجابة لمطالب الزعيم، وأسقط البلدان اسميهما، واستبدلاه بالاسم العمومي: الجمهورية العربية المتحدة. فشلنا فى حماية دولة الوحدة، فأسقطها انقلاب عسكرى بسهولة. انقلب القوميون الثوريون على الانفصاليين، لكنهم لم ينجحوا أبدا فى إعادة بناء دولة الوحدة. مع هذا، ظل القوميون الثوريون يعايرون الآخرين بأنهم ليسوا وحدويين ولا عروبيين بما فيه الكفاية، فكانوا سببا فى تعميق الانقسام بدلا من تقريب الوحدة.
فى لحظة الميلاد؛ جرى تعميد العالم العربى بنيران الحرب العالمية الأولى ودمائها. بعد مائة عام، ها هو العالم العربى يعاد تعميده بنيران الحروب الأهلية ودمارها. فهل تعلمنا شيئا من كل ما ارتكبناه من أخطاء، وهل لنا أن نتمنى أن تكون بلاد العرب أفضل حالا فى المائة عام المقبلة؟
0 تعليق على موضوع : مائة عام مهدرة / بقلم: د. جمال عبدالجواد
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات