«أحبوا نزاهته، واحترموه، فضحكوا له»، تقول نيكي هيلي المندوبة الأمريكية إلى مجلس الأمن الدولي، تعليقاً على الضحكات التي أثارها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطبته أمام الدورة الثالثة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة؛ حين تفاخر بأنّ إدارته حققت، في سنتين، ما لم تحققه أية إدارة أمريكية على امتداد التاريخ الأمريكي. «يحبون فيه أنه نزيه معهم ولم يسبق لهم أن رأوا شيئاً مماثلاً، ولهذا فثمة احترام هنا»، تابعت هيلي؛ وأيضاً: «أعرف أنّ الصحافة كانت تحاول تصوير الأمر من زاوية قلة الاحترام. لكن الحال لم تكن هكذا». من جانبه قال صاحب الشأن، أثناء مؤتمره الصحافي المشهود الذي عقده بعد الخطبة، إن زعماء العالم «لم يضحكوا عليه، بل ضحكوا معه»؛ وكان أصلاً قد قصد خلق أجواء المرح، واستثارة الضحكات تحديداً، حين لجأ إلى تلك المبالغة.
لعله الرقم 5001 في سجلّ أقوال ترامب التي تنطوي على الزيف أو التضليل أو الكذب أو الافتقار إلى الدقة، حسب مرصد صحيفة «واشنطن بوست» لتدقيق الحقائق؛ حيث أنّ الرئيس الأمريكي الخامس والأربعين حطّم الأرقام القياسية في هذا المضمار: في يوم 7 أيلول (سبتمبر) الجاري، أدلى بـ125 تصريحاً زائفاً، خلال 120 دقيقة فقط؛ كما تجاوز معدّله اليومي 32 ادعاءً كاذباً في الأيام الأخيرة، مقابل 4,9 خلال المئة يوم الأولى التي أعقبت تسلمه الرئاسة رسمياً. ومخرجو النقل الحيّ لمداولات الجمعية العامة تحاشوا، عن سابق قصد بالطبع، تسليط العدسات على وجوه الضاحكات والضاحكين من أكذوبة ترامب؛ ولو أنهم فعلوا لرأينا ضحكة الرئيس الفلسطيني محمود عباس (قائلاً في سرّه: بالفعل! فلا إدارة قبل هذه خرقت القانون الدولي واعترفت بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال الإسرائيلي)؛ أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون (حانقاً، بصدد انسحاب ترامب من أوّل اتفاقية كونية حول المناخ، توصل إليها العالم في باريس سنة 2015)؛ أو حتى مندوب كوريا الشمالية (ضاحكاً ملء شدقيه، من إدارة كان لها السبق في نقل زعيمه كيم جونغ أون من صفة «الرجل الصاروخ» إلى»الصديق»، خلال سنة واحدة فقط)…
خطبة رئيس القوّة الكونية الأعظم احتوت على الكثير من عناصر تلك المادّة النادرة التي ينطبق عليها توصيف المضحك المبكي، أي ذاك الذي ينتزع القهقهة حين يتوجب أن يُسيل الدمع؛ ليس من باب «المرح» أو «النزاهة»، كما أشاع ترامب ومندوبته الدائمة، وليس أيضاً من زاوية التباكي على مظلمة أو مأساة، بل ببساطة قياساً على تلك الحال (الشعرية والشاعرية، مع ذلك) التي أجاد بشارة الخوري تجسيدها في صدر ذلك البيت الشهير، ويجوز تعديلها هكذا: يُبكي ويُضحك لا حزناً ولا فرحا! وللرئيس الأمريكي شؤونه وشجونه مع الـ 47٪ من الأمريكيين الذين انتخبوه، ويعيدون انتخابه كلما ارتكب حماقة أو أتى فعلاً شائناً، على صعيد الداخل أو الكون بأسره، سيّان عند جمهوره. وللعالم، في المقابل، شؤون أخرى وشجون مع خطاب انعزالي غير جديد تماماً، من رئيس ليس جديداً تماماً إلا في هذا أو ذاك من الجوانب الدراماتيكية في شخصيته.
خلال حملته الانتخابية أعلن ترامب أنّ الأمم المتحدة «عدوة الديمقراطية، والحرية، وعدوة الولايات المتحدة، موطنها، وهي بالتأكيد ليست صديقة لإسرائيل»؛ ولا سبب يدعوه اليوم لتبديل موقفه، الآن وقد حضر إلى منصة الخطابة مصطحباً جون بولتون، مستشاره للأمن القومي والمندوب الأسبق إلى المحفل، والصقر الأشدّ مقتاً للمنظمة الأممية، ربما على امتداد كامل تاريخ الولايات المتحدة الدبلوماسي. كما أنه أتى إلى الجمعية العامة وقد فسخ عشرات العقود، الثنائية منها والمتعددة، التي تقيم الركائز الأبسط لمعنى الأمم المتحدة ومفهومها وعلّة تأسيسها؛ عدا عن إصراره على ربط مساهمات أمريكا المالية في ميزانية المنظمة، بهذه أو تلك من قراراتها وسياساتها وقانونها. والأهمّ، في هذه الخلاصة الواضحة، ولكي يُنصف ترامب حين يتوجب الإنصاف، أنّ خيارات هذا الرئيس ليست خارجة عن السلوك العام الذي انتهجه رؤساء أمريكا منذ تأسيس المنظمة الأممية؛ حتى إذا اختلفت درجات الخروج بين رئيس وآخر، في قليل أو كثير.
في البال ــ على سبيل المثال الذي قد يبدو مضاداً، لأنه يناقض الضحكات الهازئة ــ خطاب الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما على المنصة ذاتها، قبل تسع سنوات خلت؛ حين تغنى المعلقون الأمريكيون بالتصفيق الشديد الذي لقيته خطبة أوباما، وبلغ دقيقتين متواصلتين في ختام الكلمة، عدا التصفيق المتقطع عند فقرة أو أخرى. المفارقة تمثلت، مع ذلك، في أنّ أوباما استمتع بالتصفيق الأممي في نيويورك، لكنّ شعبيته كرئيس للولايات المتحدة كانت آخذة في التآكل التدريجي، خاصة في قلب القاعدة الشعبية المتعددة، إثنياً وطبقياً خصوصاً، التي كانت أحد أكبر أسباب صعوده وفوزه. كما تأكد يومها أنّ الأولويات الأربع التي حدّدها أوّل رئيس أفرو ـ أمريكي في تاريخ الولايات المتحدة (الحدّ من التسلّح النووي، سلام الشرق الأوسط، التغيّر المناخي، ومعالجة الفقر في البلدان النامية)، لم تكن قديمة العهد، معادة، مستهلَكة، فحسب؛ بل توالى على النطق بتلاوينها، من هذه المنصة، جميع رؤساء أمريكا.
وكما سعى ترامب إلى ابتزاز العالم عن طريق التلويح بربط منح المعونات الأمريكية بالاتفاق مع سياسات المانح، فإنّ أوباما كان قد اعتمد صيغة تجميلية من المعادلة إياها؛ حين حثّ المجتمع الدولي على استشراف القرن الجديد تحت خيمة الأمم المتحدة، من جهة؛ ثمّ وبّخ البشرية لأنها تعادي سياسات أمريكا، ولا تساندها في حروبها، ولا تمنحها ترخيصاً خالصاً بالعمل الأحادي، من جهة ثانية. والمرء يستذكر، هنا، تفسيره الفريد لحكاية العداء تلك: «بعض الأسباب يعود إلى سوء الإدراك أو سوء المعلومات حول بلدي. بعضها الآخر يعود إلى معارضة سياسات محددة، واليقين بأنّ أمريكا تصرّفت لوحدها في بعض القضايا، دون الاكتراث بمصالح الآخرين. وهذا ما أدّى إلى نزعة عداء شبه انعكاسية، كانت غالباً تُستخدم كذريعة لامتناعنا عن المشاركة في العمل الجماعي».
وفي البال مثال آخر، نتعمد استقاءه من إدارة ديمقراطية أخرى، صنعته مادلين ألبرايت مطلع عام 1993، أثناء تقديم شهادة تثبيتها في منصب المندوبة الدائمة؛ حيث قالت إنها «لن تسمح بالتنازل عن السيادة الأمريكية للأمم المتحدة، في أية منطقة ذات مصالح حيوية للولايات المتحدة في أيّ مكان من العالم». وهل كان أحد يرتاب في هذا، أصلاً؟ ألم تُخلّد في ذاكرة المنظمة الدولية جولات صراع الديكة الذي نشب بين ألبرايت والأمين العام الأسبق بطرس بطرس غالي، حول صلاحيات مجلس الأمن الدولي بالذات، حين كانت تردّد، في حضور الأمين العام أو غيابه: «أليس من المضحك أن يعتقد أنه قادر على استخدام الفيتو ضدّ سياسات الولايات المتحدة»؟
الإدارات الأمريكية تتبدل وتتعاقب، وتبقى خالدة شبه ثابتة فلسفتها في إخضاع العلاقات الدولية عموماً، والصلة مع المنظمة الدولية خصوصاً، إلى قراءة أمريكية أحادية حول تنظيم الكون؛ حتى إذا توجب ــ كما أوحى ترامب في خطبته ــ أن ينشقّ المركز الرأسمالي العالمي الأوّل، أمريكا، عن مفهوم العولمة. ولهذا فإنّ أروقة الأمم المتحدة ظلت شاهدة على مسارح تراجيكوميدية شتى، توجّب خلالها أن تختلط المأساة بالمهزلة، والضحك بالبكاء، وعجائب الواقع بغرائب الخيال؛ كما حين خلع نيكيتا خروتشوف، الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي السوفييتي، حذاءه وقرع به المنصة؛ أو حين خطب العقيد معمر القذافي ساعة ونصف الساعة، قبل أن يمزّق ميثاق الأمم المتحدة؛ أو… حين أضحك ترامب العالم وأبكاه، لا فرحاً ولا حزناً!
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
0 تعليق على موضوع : ترامب حين يُبكي ويُضحك لا حزناً ولا فرحا! - صبحي حديدي
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات