يصل الماضي، بأناسه ونصوصه وأيديولوجياته ومعاجمه وجداول أعماله، إلى نهاية تاريخه . ولا يعود بإمكان أناسه إضافة شيء إلى نصوصهم أو نصوصنا . هذه هي طبائع الأمور؛ أن يصمت الماضي ويسكن في مملكة مسحورة لاتحرك فيها الرياحُ ورقة، مملكة تشبه قصراً أسطورياً في حكاية حسناء نائمة، ألقت عليه ساحرة غاضبة ما لعنتها لأن أهلها لم يفوا بما وعدوا، فسكن فيه الزمنُ.
تجمّد أهل الزمن بلا حركة، وما عاد لهم من منفذ إلى خارج زمنهم، ولا عاد للزمنِ السائرِ من منفذٍ إليهم. مشهدهم هو الماثل في لحظة التوقف؛ يرفع أحدهم كأسه إلى فمه فلا يصل إليه ويظل عالقاً في الهواء، وتتجمد أصابعُ آخر على صفحة كتاب يكاد يفتحه، ويهم بعضهم بالنهوض فيقف بين حالين لايتقدم ولا يتأخر، ويكاد خطيبٌ بينهم أن يقول شيئاً فيغلبه سكون أبدي وينعقد لسانه، ويكتب كاتبٌ بضعة سطور ثم تصيبه غفوة مفاجئة ويظل نصف الورقة أبيض، ويحدّق حاملُ مصباح زجاجي بمصباحه وقد تجمد نوره.
توقفَ الزمن، هكذا نقول أمام هذا المشهد، إلا أن هاجساً يظل يراودنا، نحن الأحياء الذين يسيل بنا الزمنُ بين الأباطح، بأن يتمكن سكان الماضي من الحركة، أن نلحق بهم، بحساب أنهم الأوائل دائماً إن كنا من التقليديين، أو يلحقون بنا إن كنا من الحداثيين، فيشرب صاحبُ الكأس، ويفتح صاحبُ الكتاب صفحاته، وينهضُ ويسعى ذلك المعلّقُ بين حالين، ويتحرك لسانُ الخطيب، ويكمل الكاتبُ سطوره . ويلح علينا هذا الهاجس، حتى لو أكّدَ لنا الحاضر والعقل أن هذا وذاك محال . وأن ماضينا سيظل عاجزاً إلى الأبد عن فتح صفحة جديدة يضيفها إلى صفحاته، أوإضافة حرف واحدٍ إلى سطوره، فضلاً عن أن يتحرك حامل المصباح ويتخطى زمنه ويتقدمنا ليضيء أمامنا الطريق.
لهذا من الصعب، بل من المحال، تحريك أناس الماضي هؤلاء وتقويلهم، ماداموا لايملكون أن يتحركوا أو يقولوا شيئاً بخصوص حياتنا، إلا في حالة واحدة؛ أن نتخيل حالة عجيبة وغريبة لاتقلّ عجباً وغرابة عن حالاتٍ عرفناها في قصص الخيال العلمي، كأن نعود في الزمن إلى الوراء، أو نتقدم فيه إلى الأمام، على متن آلة أو ظهر مطية نمتطيها.
في هذه الحالة نصبح نحن، سكان الحاضر، سكاناً للماضي، انتهى تاريخنا ومعجمنا وأيديولوجياتنا، ويصبح سكانُ الماضي هم الأحياء الذين يعيشون بدلاً منا في الحاضر الصاخب ويستأنفون حياتهم من النقطة التي توقفت فيها. أي أننا نتبادل الأدوار، كما في مسرحية، وراء الكواليس، وحين نخرج إلى خشبة المسرح وتتسلط علينا الأضواء لايستطيع الجمهور التمييز بين من منا الحيّ ومن منا الميت. وسيتساءل حتماً؛ هل هؤلاء؛ المعلقُ والظامئ وقارئ الكتاب والخطيب والكاتبُ وحاملُ المصباح، أحياءٌ أم أموات؟
في هذه الحالة المتخيلة، وهي حالة تعيشها الثقافة العربية الشائعة الآن تفكيراً وسلوكاً، صحيفة وكتاباً وشاشة، في شخوصها ونصوصها على حد سواء، يجد الذين "يقتلون" الجديد علماً، حسب زعمهم، بحثاً عن "أصول" للفروع، وفروع للأصول، والذين يستنطقون الأموات بشأن الحاضر، مبرراً كافياً لعملهم العابث هذا. في هذه الحالة المتخيلة لايفهم، ذلك الذي طار وسكن مملكة الماضي المسحورة، "الأصالة" إلا إذا كان الحيُّ ذا صلة ونسب عضوي بالأصول، أي بالقديم، بجذرٍ ومرجعٍ ومدونة تفسيرية لكل ما يأتي في الأزمان اللاحقة. لن تكون الأصالة كما هي على وجه الحقيقة، التفرد، ولن نكون الأوائل في السباق، بل الأصالة هي كل ماقام على مثال سابق، ونحن الأواخر الذين عليهم أن يلحقوا بأوائلهم، أي أن يستديروا ويعودوا إلى الوراء، ويأخذوا معهم زمنهم أيضاً، وزمن كل إنسان على وجه الأرض إن أمكن كما يحدث اليوم .
أليست هذه هي الدعوة ذاتها إلى تحقيق الحالة المتخيلة التي أشرتُ إليها آنفاً؟
معنى هذا أن الحيَّ، أو الجديد المبتكر أو الحادث، إن لم يجد ما يفسّرهُ في الماضي، وقد يكون هذا سحيقاً بلا بداية حادثة ولا نهاية ظاهرة، سيظل لقيطاً لاشرعية له، معرضاً لشتى التهم، وقد تقطع رقبته بالسيف، سواء كان بشراً أم حجراً . والأعجب أن بعض المعاصرين (من سكان المملكة المسحورة الذي بادلوا الأمواتَ الأدوارَ فصاروا أمواتاً وصار الأمواتُ أحياءً) يشدّد ويكرّر على أن هذه هي الوسيلة الوحيدة لإثراء حياتنا النقدية والثقافية والسياسية . . وما إلى ذلك.وماذا لو لم يكن للجديد أصل؟
حسب هذه الجمهرة من الممثلين، سكان الماضي، لن يكون الجديد فاعلاً ولا مثرياً لحياتنا، لن يكون شرعياً. وبهذا المنطق الجامع بين الاتباعي المتحِّجر وبين المتظاهر بالتجديد والحداثة، يُعاد تفسيرنا، نحن الأحياء جيلاً بعد جيل من قبل أمواتٍ أصبحوا جاهزين انتهى تاريخهم منذ زمن طويل، أشخاصاً ونصوصاً، ولم ننتهِ من تخيل أنهم يعيشون بيننا أو أننا نعيش بينهم، أو يجب أن نتبادل الأدوار معهم، إما تعبيراً عن وفاء الأبناء للإسلاف، أو تعبيراً عن أننا أمواتٌ سعداء بمصادفة أننا أحياء في غفلة من الزمن.
ما نقوله، أو ما يجب أن نقوله، هو أننا نحن من عليه تفسير الجاهز، أي الماضي، وليس العكس، أي ليس لذلك الماضي الجاهز والساكن في مملكته أن يفسّرنا، ليس استناداً إلى حاجتنا إلى التجدّد فقط، بل واستناداً إلى المستوى المعرفي الذي وصلته الإنسانية الآن.
ما نقوله، أو ما يجب أن نقوله، نحن لسنا أحياء بالمصادفة، بل بطبائع الأمور التي تحكم أين ومتى ينتهي التاريخ، وبالنسبة لمن.
ولأولئك الذين يخشون أن نكون نحن من يستنطق الماضي، وأن ينطق بما لم يسبق أن نطق به على يدهم أو على يد أشباههم، أن يكفّوا عن هذا الهراء. فلكلّ عصر لغته وحاجاته ومعجمه ومستواه المعرفي، وما يقوله عن نفسه تحدّده هذه العناصر الأربعة بلا استثناء، لا ما يقوله سكان الماضي عن أنفسهم وعالمهم، ولا ما يقوله وكلاؤهم الملثمون الصاعدون والهابطون بين ماض يعشقونه لأنهم من أمواتهِ وحاضر يلفظونه لأنهم من أعدائه، ولكنهم يجرونه عنوة ليهبط معهم.
نحن من يقول عن سكان الماضي ويخبر عن عالمهم، ويأتي بعد ذلك ما نقوله عن حاضرنا. هنا ينتهي تاريخ النص الماضي ويبدأ تاريخ نص الحاضر؛ إن من لديه الحق الكامل في قول ما يقول عن حاضره وماضيه هو الحيُّ فقط.
0 تعليق على موضوع : حين يقيم الأحياءُ في الماضي - بقلم : محمد الأسعد
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات