لم تتوقف النقابات العمالية الفلسطينية في التاريخ الحديث عن التأسيس الشرعي والقانوني، إلا منذ الخامس والعشرين من شهر كانون أول من عام ألفين وواحد وهو تاريخ بدء نفاذ قانون العمل الفلسطيني رقم 7 لسنة 2000 . وبذا وجد فراغ تشريعي في إطار تأسيس قانوني للنقابات العمالية الفلسطينية، نظرا لإلغاء قانون العمل الأردني رقم 21 لسنة 1960بموجب المادة 140من قانون العمل الفلسطيني الجديد. بكلام آخر لم يعد هناك من سند قانوني أو مرجعية قانونية أو شرعية قانونية لتأسيس نقابة عمالية أو ما يتصل بها بعد صدور قانون العمل الجديد. أما النقابات التي تأسست قبل نفاذ القانون الجديد فتبقى شرعية وقائمة وعاملة، وفق القانون القديم الذي أسست بموجبه.
وقد أثار هذا الغياب النقابي القانوني الهرج والمرج في الأوساط العمالية والنقابية والإجتماعية والقانونية بل السياسية الفلسطينية منذ ذلك التاريخ . وما زالت المحاولات والنقاشات حول شرعية تاسيس النقابات العمالية، ومرجعيتها القانونية، تشغل الساحة العمالية بخاصة، والمجتمع الفلسطيني بعامة. بل تدخل القضاء الفلسطيني بحسم منازعات في هذا الصدد أحيانا.
بداية، يبدو أن المشرع الفلسطيني كان موفقا بالفصل بين احكام عقد العمل الذي يحكمه القانون الخاص، وبين تأسيس النقابات العمالية التي يحكمها القانون العام، حينما اصدر قانون العمل الحديث رقم 7 بدون أن يتضمن بين جنباته أحكام تاسيس النقابات العمالية، أي أنه لم يدمجهما معا، كما فعل المشرع الأردني سابقا في قانون العمل رقم 21 لسنة 1960 . وهي خطة سليمة علميا وأكاديميا.
لكن المشكلة كمنت في أن المشرع الفلسطيني اصدر قانون العمل الجديد، ولكنه نسي أو تناسى أو لم يلاحق، إصدار قانون للنقابات العمالية. صحيح أنهما أمران وقانونان مختلفان طبيعة وحكما، ولكنهما متلاصقان وجودا وتقدما كالوضوء والصلاة. ويبدو ان وزارة العمل - حيث لم يكن وجود لمجلس الوزراء آنذاك مستقل عن الرئيس - لم تبادر إلى إصلاح الضرر بشكل فوري بل تثاقلت عن حله ليومنا هذا، وبعدها غاب المجلس التشريعي وفقد قوته التشريعية. وغير معروف جهود اتحاد نقابات العمال، ومنظمة العمل الدولية، في هذا المجال الذي طال انتظاره منذ زمن. واستبدل كل ذلك بالمادة 43 من القانون الأساس التي تجيز سن قوانين الضرورة التي لا تحتمل التأخير والتي اصطلح على تسميتها القرار بقانون.
للوضوح ومنعا للخلط، نحن نتحدث عن قانون للنقابات العمالية أو واحدة منها، وليس عن قانون لنقابة مهنية كالطب والهندسة والمحاماة، فالأمران مختلفان اختلافا بينا. فقانون أية نقابة مهنية لا يجيز لأي شخص العمل في نطاقها إلا إذا سجل فيها ودفع رسومها ونجح في امتحاناتها وغدا عضوا فيها يتقيد بأنظمتها وقوانينها ويخضع لمجلس تأديبها. أما النقابة العمالية على اختلاف موضوعها، فلا تشترط ايا من ذلك، ويستطيع العامل اختيار مركز عمله ومكانه دون أن يسجل في اية نقابة عمالية أيا كان اسمها.
وفي ذات الإطار، فقد اجيز مؤخرا إنشاء نقابة للموظفين العموميين كالمدرسين في الأردن بعد ان كان محظورا عليهم هذا التاطير النقابي لعقود. ويبدو ان قانون العمل الفلسطيني قد ساير هذا الإتجاه حينما أجاز في فقرته الأولى من مادته الثالثة لموظفي الحكومة والهيئات المحلية إنشاء نقابات خاصة بهم. وهو تطور محمود رغم أنه لم يكتسب إطار الشرعية القانونية المناسب. ولم يسن قانون يؤطر قانونيا تشكيل نقابة موظفين عموميين ليومنا هذا من قبل الدولة الفلسطينية، ولا من قبل السلطة قبلها.
وقد يعتقد البعض أن القانون الأساس الفلسطيني وفي مادته الخامسة والعشرين قد كفل حق إنشاء النقابات العمالية الفلسطينية بكل تفاصيلها. وأنه بموجب هذه المادة يمكن تشكيل أية نقابة عمالية فلسطينية، حينما نصت على أن " التنظيم النقابي حق ينظم القانون أحكامه ". ويقول البعض أن الأمر زاد قوة ونصاعة حينما قرر ميثاق الحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية التي انضمت إليه دولة فلسطين، في مادته الثامنة على " حق الأفراد في تشكيل النقابات العمالية والإنضمام إليها دون قيد ".
يبدو أن الكثيرين منا يخلطون بين الحماية الدستورية والحماية التشريعية للحق. فحماية الدستور للحق عادة ما يتم من خلال الإطار التشريعي. بل إن السلطة التشريعية هي التي ترسم حدود الحماية التشريعية للحق الدستوري. صحيح أن السلطة التشريعية لا تستطيع سحب هذه الحماية أو إلغاءها أو إبعادها لكنها تستطيع أن تنظمها وترسمها بما يكفل وجودها وفق رؤية السلطة التشريعية. فالمشرع الدستوري بطبيعته يقر بالمبدأ ويترك تفاصيل حماية المبدأ للسلطة التشريعية. وبين السطور تقوم المحكمة الدستورية بدورها بالمراقبة على أعمال السلطة التشريعية التي تخالف الدستور.
لذلك القول بان القانون الأساس تكفل بأن التنظيم النقابي حق يكفله القانون، لا يكفي برأيي. بل يجب أن يعقبه عمل تشريعي يبين وينظم هذا الحق النقابي. لأن القانون الأساس لا يمكن أن يخوض في عدد الهيئة ألتأسيسية لنقابة عمالية ما، وتشكيل مجلس إدارتها، وطريقة انتخاباتها، وكيفية حلها، وشخصيتها الإعتبارية واجتماعاتها وعلاقاتها واتحادها، وما إلى ذلك من أمور تفصيلية، والتي يتكفل بها عمل تشريعي.
كذلك هو حال الإعتماد على نص المادة الثامنة من ميثاق الحقوق الإقتصادية والإجتماعية، لايصح لوحده لأن يتخذ أساسا ومرجعا رغم أن دولة فلسطين لم تتحفظ على هذا النص. ذلك أن هذا النص غير معمول به ليومنا هذا في فلسطين، لأنه لم يترجم من قبل الرئيس، إلى قاعدة قانونية داخلية فلسطينية، ليتم تنفيذها، والتقيد بها، وفق ما هو مستقر في أحكام المعاهدات.
لذا لا بد من عمل تشريعي خاص بالنقابات العمالية، ليغدو مرجعا وسندا قانونيا لإنشاء النقابات العمالية الفلسطينية، بدل هذا الفراغ التشريعي، وأحيانا التخبط التشريعي والفقهي بل القضائي. كثير من الأعمال التشريعية صدرت بموجب أحكام " الضرورة التي لا تحتمل التأخير " في غياب السلطة التشريعية عملا بموجب المادة 43 من القانون الأساس، وهو أمر غير محمود وغير شرعي.
السبيل لإصدار عمل تشريعي للنقابات العمالية، يتم من خلال إصدار فوري لمجلس الوزراء الفلسطيني مستندا إلى المادة سبعين من القانون الأساس. وهو هنا يغدو كنظام مستقل وفي قوته لأنه يستند إلى قوة القانون الأساس ولا يستند إلى قوة التشريع العادي. وكفانا تأجيلا وتأرجحا فالأعشاب الضارة تنمو بسرعة!!!




0 تعليق على موضوع : لماذا لا يوجد قانون للنقابات العمالية في فلسطين؟! - بقلم: المحامي إبراهيم شعبان
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات