بقلم: الدكتور ناجي صادق شراب
استاذ علوم سياسية - غزة
يبقى الرئيس محمود عباس رمزا وطنيا ومجسدا لمسيرة نضال وطني طويلة من أجل التحرر من الاحتلال الإسرائيلي والبناء السلمي لدولة ديموقراطية مؤمنة بالسلام خيارا للتعايش ونبذا للعنف المسلح وقتل المدنيين. رؤيته السياسية هي نفس الرؤية السياسية لمن سبق من قيادات سياسية تمثل مرحلة النضال وتبني السلام كأحد أهم ركائز العمل الوطني الفلسطيني، لم يخرج عن الثوابت الوطنية الفلسطينية، ولو كان كذلك لوقع على إتفاقات تسوية وليس سلاما منذ وقت طويل.
هو يريد تسوية سلمية مبنية أولا على إستعادة الحقوق الفلسطينية، والحق في قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كأي دولة أخرى، لذلك آمن بحل الدولتين كآلية لحل الصراع المركب والمعقد مع إسرائيل، لكنه في الوقت ذاته كان يدرك ماذا يعني قيام دولة بجوار إسرائيل، وكان يدرك وقائع الجغرافيا والتداخل السكاني، ولذلك فإن مفهومه للدولة الفلسطينية أقرب للدولة الإنسانية المشتركة، الأساس في الفكرة انه يريد دولة تؤكد على الحقوق الفلسطينية ـ وفي مرحلة لاحقه دولة منفتحة على من حولها، رؤية في إدارة وحل الصراع، في الصورة الأولى إدارة للصراع، وفي المرحلة اللاحقة حل للصراع، وهذا يحتاج لوقت وزمن لتحقيق التعايش المتبادل، والقبول بالآخر في إطار كينونة سياسية مرنة.
الأساس في الحل عنده الحقوق الفلسطينية، ومن هنا تمسكه بحل الدولتين. وإيمانه بالسلام ليس مجرد تسوية او حل بقدر ما هو مشروع سياسي حاضر ومستقبلي، يقدم نفسه على أنه صاحب رؤية سياسية ومشروع سياسي، لم يتغير وثابت، وهذا احد مصادر قوة الرئيس، ولم يتخل عن شرعية ثورية القيادة التاريخية، فهو يعتبر نفسه إمتدادا لهذه الشرعية، ولم ينفصل عنها لا في سياقها السياسي ولا في سياقها التاريخي ومن منا لا يتذكر غصن الزيتون الذي حمله الرئيس الراحل ياسر عرفات، هو نفس الغصن الذي يحمله الرئيس عباس.
لقد أدرك الرئيس عباس منذ البداية وعن دراسة معمقة للفكر الصهيوني والفكر السياسة الحاكم في إسرائيل، وطبيعة المجتمع الإسرائيلي ماذا يعني السلام؟ وقوة هذا النهج الذي يتعارض مع الفكر الصهيوني، فكرة إسرائيل الكبرى، ومن هنا محاربة الرئيس والتحريض عليه على انه ليس شريكا للسلام، كيف ذلك ؟
كل ماقام به الرئيس انه قد كشف حقيقتين أساسيتين في الصراع: ان إسرائيل لا تريد السلام ، وإنما تريد الأرض والتهويد والإستيطان، وأنها ترفض فكرة حل الدولتين، لأنها تدرك وهنا قوة البصيرة السياسية للرئيس عباس ان فكرة الدولة الفلسطينية إجهاض لفكرة إسرائيل الكبرى وتقزيم لإسرائيل داخل حدود معينة.
إسرائيل تريد حدودا مفتوحة، والرئيس عباس يريد حدودا سياسية معلومة تمارس من خلالها السيادة الوطنية الفلسطينية، بعاصمتها القدس الشرقية، ومن هنا معارضته القوية للقرار الأمريكي بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وهذا الموقف يلقي الضوء على أحد مرجعيات الفكر السياسي للرئيس عباس وهو التمسك بالبعد الديني الحضاري الذي تمثله القدس، وهذا يفسر لنا صلابة الموقف.
والركيزة الثانية انه قد تعامل مع الدور الأمريكي من حقيقة أن الولايات المتحدة دولة أحادية القوة دوليا، ولا يمكن تجاهل تأثيرها في المنطقة، لكن هذا الإدراك السياسي بالدور الأمريكي لم يعن الخضوع لإملاءات هذا الدور، وعندما وصل الإدراك بأن هذا الدور قد فقد مصداقيته مع إدارة الرئيس ترامب بالإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونزعها من على طاولة المفاوضات لم يتردد في مهاجمة هذه السياسة، وبخطاب قوي غير مسبوق تفاجأت به الولايات المتحدة ذاتها، والرئيس الأمريكي نفسه، الذي قال ان الفلسطينيين لا يحترموننا، ولم يأبه بسياسة العصا التي بدأت تلوح بها الولايات المتحدة ضد الفلسطينيين بوقف المساعدات وغلق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية، بل إن هذه السياسات زادته إصرارا وتصلبا، وهذه سمة أخرى من سمات شخصية الرئيس عباس سمة العناد السياسي التي تميزت بها القيادات التاريخية الفلسطينية، وتذكرنا بالموقف التاريخي للرئيس عرفات عندما وقف وقال لا للرئيس الأمريكي كلينتون، رغم ما كان معروضا وهو افضل حالا مما تعرضه إدارة الرئيس ترامب بتصفية القضية الفلسطينية من خلال ما يسمى بصفقة القرن التي أسماها الرئيس صفقة التصفية.
والرئيس هنا يعبر في موقفه هذا على التمسك بالشرعية التاريخية التي رفضت كل الحلول الهادفة للتصفية، والبعد الآخر انه لم يخدع شعبه منذ ان تولى الرئاسة عبر انتخابات وطنية أعترف الكل بنزاهتها وظل معبرا عن برنامجه الإنتخابي الذي تقدم به، قال انه مع السلام، ومع المقاومة السلمية الشرعية، وضد العنف والإرهاب، وقتل الأطفال والمدنيين وهذا منطق وصدقية في الخطاب السياسي، فكيف له وهو يعبر عن قضية عادلة يعاني شعبها من الاحتلال والإعتقال والأسر والقتل بفعل قوة السلاح الإسرائيلي أن يطالب بخطاب سياسي يتعارض مع شرعية القضية الفلسطينية.
الرئيس ليس خيالي الخطاب والطوبائية، فهو يعيش الاحتلال على الأرض ويراه على بعد سنتيمترات منه، ويرى قوة السلاح الإسرائيلي على الأرض، ويدرك وقائع السياسة الدولية، ويدرك ماذا تعني الولايات المتحدة؟ لكنه واقعي في مطالبه السياسية، التي لا تخرج عن الحد الأدنى من الثوابت الوطنية الفلسطينية وهذه الثوابت هي التي تقف وراء التصلب التفاوضي الفلسطيني هدفه إبراز الطابع الإحتلالي والعنصري واللاديموقراطي لإسرائيل، يريد أن يوصل رسالة للعالم ان إسرائيل لا تريد السلام، إسرائيل تتمسك بالإحتلال ورفض حل الدولتين الذي يستند على الشرعية الدولية، هنا من منظور أدبيات الصراع وحل النزعات الدولية يطلب ويتمسك بالحل الواقعي القابل للتنفيذ، وهذا ما يفسر لنا هذا الإنجاز الدولي بقبول فلسطين في الأمم المتحدة دولة مراقب ورفع علمها بجانب العلم الأمريكي.
ويدرك الرئيس ان الحلول المطلقة لها قواعدها وأصولها والزمن كفيل بها. لهذا يشكل الرئيس خطرا على إسرائيل ليس من باب القوة العسكرية ولكن من خلال المشروع السياسي، واخطر ما يقلق إسرائيل ان تأتي قيادة فلسطينية تتعامل معها بهذا الخطاب العقلاني الذي يرفع الغطاء السياسي عنها، وهذا ما حدث فعلا الآن من أصوات تنتقد ولأول مرة إسرائيل وتطالب بالإعتراف بفلسطين دولة، وبهذا الحضور الدولي.
الرئيس ورغم الضغوط ومتاعب العمر لم يهدأ ولم يركن للراحة السياسية فهو كل يوم في عاصمة وفي محفل دولي ليؤكد على مصداقية وعدالة قضيته. ولم يتوقف المشروع السياسي على الخطاب والفكرة بل تبنى الوسائل والآليات التي يمكن ان تحقق ولو جزئيا اهداف هذا المشروع. لم يقتصر خطابه على المجتمع الدولي، بل خاطب المجتمع الإسرائيلي من الداخل ليوضح ماذا يعني السلام لهم؟
والرئيس يدرك تماما ان ما حدث مع الرئيس عرفات قد يتكرر ثانية، وهذا ما نراه اليوم من تحريض ومحاولات للإغتيال السياسي، تارة بتهم التحريض وانه يؤيد الإرهاب والعنف وتارة بزعم الفساد وبشراء طائرة وهي ليست كثيرة على القضية، وما الذي يضر إذا حملت إسم دولة فلسطين وليكن لنا طائرة صغيرة غدا تتحول لأسطول جوي مع دولة فلسطين. ومحاولة تعميق حالة الإنقسام. وتبقى نقطة الضعف الوحيد في الإنقسام الفلسطيني الذي يأكل هذه الإنجازات. هذا التحدي الأكبر الذي يواجه الرئيس في الداخل الفسطيني.
يدرك الرئيس صعوبة التحديات والمعيقات التي تواجهه ليس فقط في البيئة الفسطينية بل عربيا ودوليا، ورغم صعوبة التجديف لكن ما زال الرئيس يجدف بالسفينة الفلسطينية، وهو في حاجة لشعبه ليجدف معه حتى ينجو الجميع من محاولات غرق السفينة الفلسطينية.
ويبقى الرئيس قضية سياسية تثير الجدل ـ وتبقى قوته من قوة فلسطين وشعبها المتجذر على أرضه ويبقى رهانا دوليا لحل الدولتين وتحقيق السلام ويبقى مفتاح السلام والحرب في يد الرئيس والتاريخ كفيل أن يحكم على شخصية الرئيس، فالقادة الكبار دائما ما يحكم عليهم التاريخ متأخرا. وللحديث بقية في جوانب أخرى من شخصية الرئيس.
drnagishurrab@gmail.com
0 تعليق على موضوع : الرئيس عباس صاحب قضية ومشروع سلام
الأبتساماتأخفاء الأبتسامات