شبكة الدانة نيوز -- المقالات  شبكة الدانة نيوز -- المقالات



random

آخر الأخبار

random

جاري التحميل ...

اصطياد الأشباح.. هدم السجن ببنائه من جديد! -- إبراهيم نصر الله






ليس من قبيل المبالغة القول إن فلسطين كانت دائما، ومنذ عام نكبتها، أكبر سجن على وجه الكرة الأرضية، وفي هذا السجن، عاش من صمدوا في أرضهم، لسنوات طوال، خلف الخط الأخضر، الذي لا خضرة فيه، بل ظلام مستمر، وعاش في السجن من أصبحوا، بين هزيمة وظهيرتها التي لم تشرق شمسها حتى اليوم.
سبعمئة وخمسون ألف فلسطيني، نساء وأطفال وشباب وشيوخ، تم اعتقالهم بشكل مباشر منذ عام 1967، بحيث يشكلون ربع الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة تقريبا، وإلى هذا الاعتقال المباشر، كانت هناك الاعتقالات الجماعية، مثل منع التجوال، والحصار، في الحرب، وفي السِّلم المريض الذي ابتلي به الفلسطيني، السِّلم الذي حوّل الفلسطيني إلى نزيل للسجون التي أصبحت مدنه وقراه وأحياؤه. وفي وقت يستطيع السجان، في السجن، أن يمد يده ويخرج السجين إلى غرفة التحقيق، في أي وقت شاء، كان هذا السجان نفسه، يمد يده، حيثما أراد، ومتى أراد، ليخرج أي مواطن فلسطيني من غرفة نومه، ويمضي به إلى غرفة التحقيق.
لم يكن فيلم (اصطياد الأشباح) للمخرج رائد أنضوني، أول فيلم عن السجن والسجناء وهذه التجربة المريرة للفلسطينيين، فقد سبقته أفلام كثيرة، وبرامج تلفزيونية أكثر، عن معاناة السجناء، وبعضها حقق حضورا فنيا جميلا، لكن فيلم أنضوني يذهب إلى مساحة جديدة، على المستويين الفني والإنساني، وتعدّد الدلالات، والجرأة أيضًا، جرأة المخرج بالدرجة الأولى، وجرأة من شاركوا في الفيلم.
قبل عام أتيح لي أن أزور موقع التّصوير، في نطاق تحضيري لرواية عن السجناء، وأن أتجول فيه أكثر من مرة. كانت الزيارة الأولى مع الفنان محمد عطا، مدّرب الرقص، والسجين، المشارك في الفيلم أيضا. لقد أتاحت لي الجولة الأولى فرصة مشاهدة الفيلم، حتى قبل أن أراه، ولعل الظلام المخيم في تلك المساحة الكبيرة، تحت مستوى الأرض، ظلام جدرانها وممراتها، كان رحلة استثنائية بالنسبة لي، حين كان أبو عطا، يشرح لي كيف بنيت الزنازين، وغرف التحقيق والتعذيب، استنادا لذاكرة كل سجين عن زنزانته، وتفاصيل المكان الذي اعتقل فيه وعُذِّب. كان يسير أمامي، ويشرح أين ظهر طيف أمّه، في لحظة من أقسى اللحظات في أثناء التحقيق معه، وكيف سارت باتجاهه، حاملة الماء لتسقيه، وكيف طلب منها أن تسقي رفاقه أولا.
كل تلك الأحاسيس وغيرها الكثير، يصوّرها الفيلم، وأظن أن من أكبر الصعوبات التي واجهت المخرج، هي اختيار المَشاهد التي سيتكون منها الفيلم في النهاية، لأن كل شيء كان يولد بتلقائية في أثناء التصوير: المواقف، الانفعالات، الانهيارات، لحظات الأمل، ولحظات اليأس، وانفلات الشخصية كلما وصلت إلى طبقة أعمق في ذاكرتها وروحها. ولعل طبيعة المكان، كعالم سُفليّ معتم، ورهبته، وقدرته على استعادة تجربة السجن، كان لها التأثير الأكبر، في البوح والانكشاف، وملامسة حافة الانهيار، التي أجبرت أحد السجناء المشاركين، أن يخرج من الفيلم.
يبني المخرج أنضوني فيلمه بذكاء وحساسية، في النسخة التي نراها، لكن تنسيق مَشاهد تلك العاصفة التي اجتاحت المشاركين في الفيلم، واجتاحته أيضا، حين أعادت له تجربة عاشها في الخامسة عشرة من عمره، ثم قيام المشاركين بوضعه في الزنزانة، وإقفال بابها عليه، كل ذلك حوّله في لحظات كثيرة إلى شخص معذَّب بفكرة الفيلم وإخراج الفيلم، وإدارة السجناء، أو الممثلين فيه.
ينطلق الفيلم كفيلم وثائقي، لكنه يقود الجميع، برغم عنهم إلى جانب درامي، وهو يولد. فالحوارات ليست مكتوبة، والسيناريو أيضًا، والمواقف الدرامية، القاسية، لا أحد يعرف متى ستبزغ، ولا أحد يتوقع متى ستشرق الضحكات، أو تتفجّر الدموع.
ويمكن أن نلاحظ في أحيان كثيرة أن العفوية هي التي تقود المشهد، حيث يفاجأ السجين بما باح به، أو قام به، كما يُفاجأ المخرج، لا بدّ، من موقف لم يكن قد مرّ في خياله من قبل.
يقدم أنضوني فيلما، يسعى من خلاله، حسب تعبيره، إلى هزيمة أشباح ذاكرته، ولكنه يفتح بابا واسعًا لأشباح ذاكرات السجناء المشاركين في الفيلم، لكي تتدفق، وتملأ أي قاعة يمكن أن يُعرض فيها فيلمه. كما أن كل مشارك في الفيلم، لا ينجو من أشباح سواه، فالفيلم، برغم سعيه لهزيمة الأشباح القابعة في الداخل، إلا أنه يوقظها فعلا، ويجعلها أكثر شراسة، كما نشعر، وربما هو حسّ مدمّر للسجناء الذين باحوا بعذاباتهم، وهم يستعيدون تجربتهم، لكن الحكمة الشعبية التي تقول (الموت مع الجماعة رحمة!) لم تكن صائبة في أي يوم من الأيام، لأن مأساة كل سجين كانت تتسع بمأساة رفاقه الذين عايشوا تجربته، وعايش تجاربهم، وإن بدا الفيلم في النهاية متلهفا لضوء ينير نهايته، فكان (الدبكة)، أو الرقصة الشعبية الجماعية، التي تمهد لمشهد لن نراه، هو حفل الزواج القريب، لأحد السجناء المشاركين في الفيلم. وهو مشهد تحسّ فيه، أنه سيتحرّر، فعلا، وقرار الإفراج عنه قد صدر، لكن المحزن أيضا، أن مشهد من يرقصون له، لا يمنحنا البهجة، بقدر ما يمنحنا إحساسا، بأنهم سيبقون في السجن، لزمن لا نعرفه. مثل ذلك السجين العريس الذي سيخرج منه؛ لأن الفيلم يقول لنا بوضوح تام، إن وجود البشر خارج السجون التي عانوا فيها، ومنها، لا يعني أبدًا أنهم تحرروا خارج أسوارها، فالمخرج الذي يلتقي شبحه في أول الفيلم، شبحه الذي نفِّذ باللونين الأبيض والأسود، باستخدام تقنية الصور المتحركة، سيتبعه شبحه حين يُشرع الباب، في اللقطة الأخيرة، وكأن شبحه قد أصبح ظلّه الثاني.
تلك هي معضلة الفلسطيني، في الفيلم، وخارجه، فها هو بعد سنوات طوال من أوسلو، يحُشر في الزاوية التي يُجبر فيها على أن يبني سجنه بنفسه، متخيِّلا أنه عاد، متخيِّلا أنه تحرَّر؛ مثله مثل السجين عبد الله مبارك الذي شارك في الفيلم، واعتقل من جديد قبل انتهاء العمل فيه، والذي أُهدِيَ الفيلم له، وإلى سبعة آلاف فلسطينية وفلسطيني ما زالوا معتقلين في سجون الفاشية الصهيونية حتى الآن.
يحاول الفلسطيني بكل قوة أن يهدم سجنه، وإذا به يقوم ببنائه من جديد!

كاتب الموضوع

شبكة الدانة الاعلامية

0 تعليق على موضوع : اصطياد الأشباح.. هدم السجن ببنائه من جديد! -- إبراهيم نصر الله

  • اضافة تعليق

  • الأبتساماتأخفاء الأبتسامات

    https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhtNRmjx_UlCfdrZ46drcpO38rFltEv-Cic1BDDlTbrEu_jYvybafnAcAgh_xQvY9eA58T4vZPR2po6XgGqfsGzUP3MaOPekpsryhi2oh78x_lzyqOtZzTifUfUJYgNkUlu1Ku-A4epcUo/s1600/%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2584%25D9%2588%25D8%25BA%25D9%2588+%25D8%25A7%25D9%2584%25D8%25AC%25D8%25AF%25D9%258A%25D8%25AF+%25D9%2582%25D8%25B3%25D8%25A7%25D8%25B3+200+%25D9%2581%25D9%258A+250.gif





    إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

    إتصل بنا

    فن تشكيلي

    فن تشكيلي
    لوحة مختارة من جاليري سفن تايمز

    مشاركة مميزة

    تأثير موجة الإرهابيين الأجانب على الأمن القومي المصري

    بقلم : د. إيمان رجب * مع استمرار العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، تتزايد مناقشة مصير الإرهابيين الأجانب الذين سيخرجون ...

    الفلسفة والفلاسفة

    ابحث في الموقع عن المواضيع المنشورة

    جميع الحقوق محفوظة لـ

    شبكة الدانة نيوز -- المقالات

    2017